مجدي هاشول--كتب الباحث الشمّاس الفلسطيني الماروني مجدي أسامة هاشول، من ضيعة الجشّ في الجليل الأعلى، هذا البحث التاريخي والروحي عن الكنيسة المارونية في الأرض المقدسة المحتلة بين الأمس واليوم، ننشره له، ليكون، على قوله، "في خدمة الله والإنسان والحقيقة"، بالتزامن مع زيارة البابا فرنسيس والبطريرك الماروني بشارة الراعي لفلسطين.هل من حضور مسيحيّ ومارونيّ فاعل في الأرض المقدّسة؟ هل هو حديث العهد أم قديمه؟ ما هو الدور الذي يلعبه الموارنة في هذه الأرض، منذ أيّام النكبة السّوداء إلى يومنا هذا؟ وكيف نقرأ زيارة غبطة البطريرك بشارة بطرس الراعي، إلى أبناء الأبرشيّة المارونيّة فيها؟نبذة تاريخيةالكنيسة المارونيّة هي كنيسة شرقيّة أنطاكيّة كاثوليكيّة، استقت روحانيّتها من بطريركيّة أنطاكيا العريقة، حيث تكوّنت أوّل جماعة مسيحيّة خارج الأرض المقدّسة، من أصول وثنيّة وليس فقط من اليهود المهتدين، وبها دعي أتباع المسيح للمرّة الأولى "مسيحيّين" (أعمال 11، 26ب). وفق التقليد، فإنّ سمعان بطرس، الأوّل بين الرسل، الذي أوكله الرب بصورة خاصة خدمة رعاية المؤمنين (يوحنا21: 15 - 17)، هو من أسّسها وسهر عليها، قبل انطلاقه واستشهاده مصلوبًا بالمقلوب في مدينة روما، ولا عجب في أن يتخذ البطريرك الماروني بعد اسمه مباشرة لقب بطرس نسبةً إلى المؤسّس.لم تتوقّف الكنيسة المارونيّة عند التقليد الأنطاكي السرياني الذي ورثته منذ نشأتها مع القدّيس مار مارون (350 – 410) الذي أتى على ذكره المؤرّخ تيودوريتوس أسقف قورش في كتاب "تاريخ أصفياء الله" (ص 145-146 + 167) والقدّيس يوحنّا فم الذهب بطريرك القسطنطينيّة (347–407) في رسالة إليه سائلًا إيّاه الصلاة لأجله، ومع البطريرك مار يوحنّا مارون (انتُخب بطريركا أوّل عليها عام 685، إثر وفاة البطريرك ثيوفانس في القسطنطينية وشغور الكرسي الأنطاكي، ورقد في الربّ عام 707)، بل طوّرت هذا التقليد الأقرب إلى التقليد الأورشليمي الأصيل، بغنى تراثيّ عظيم، من جيل إلى جيل، تشهد له بنوافيرها الغفيرة وصلواتها العميقة وألحانها التي طالت تراث الشرق والغرب، ممّا لا يسعنا التوقّف عنده في هذا المقال.الحضور الماروني في الأرض المقدّسةيستغرب البعض حضورنا الماروني في هذه الأرض الطيّبة، أرض المسيح والعذراء والرسل والآباء، ونرانا مجهولين في نظر الكثيرين، في حين أنّ الوديعة التي يحملها حضورنا هنا، إن أخذنا بعض العمق في التأمّل، لا تقدّر بأيّ ثمن. ظنّ البعض أنّ الموارنة حديثو العهد في فلسطين التاريخيّة، في حين أنّ لهم جذورًا عميقة ضاربة فيها، نستقي بعضًا منها من وثائق تاريخيّة، وبعضاً آخر من تحليلات موضوعيّة سليمة إذ إنّ كثيراً من الوثائق فُقدت، ومن المعلومات ضاعت أو غُيِّبَت في صفحات التاريخ الغابر، ويا حبّذا لو تخرج إلى النور يوماً.الجذورفي القرن الخامس ميلادي، زارت القدّيستان الشهيرتان مارانا وكيرا، تلميذتا القدّيس مار مارون، القدس، وأتمّتا بها مراسيم العبادة، بعد صوم شاقّ وطويل (ذكره المؤرّخ تيودوريتوس أسقف قورش في كتاب "تاريخ أصفياء الله" ص 231 + 232)، ولا بدّ أنّهما تركتا أثرًا ما في الجماعة المسيحيّة المحليّة هناك، ولربّما أستقطبتا البعض إلى هذه الروحيّة الجديدة الناشئة.يذكر المؤرّخ ريستيلهيبير (Ristelhueber, R., Les Traditions FrançaisesAu Liban, Paris, 1925 ص58)، الوجود الماروني في القدس، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ويتحدث كذلك المؤرّخ Arce Agustin عن الوجود الماروني في القرن الرابع عشر، وعلاقة الموارنة بالرهبنة الفرنسيسكانيّة، وحكمتهم وأمانتهم للتعليم الصحيح (راجع 1516-1450Arce, Agustin. Maronitas Y Franciscanos En El Libano ص149-269). ويتكلّم المؤرّخ الأرمني عارف العارف، عن موارنة القدس عام 1320أنّهم كانوا من أهم الأعمدة المسيحيّة (العارف، المسيحيّة في القدس، 1951، ص. 149 – 150 )، ويذكر المؤرخ بطرس ضو، الوجود الماروني في القدس، في تلك الحقبة (راجع تاريخ الموارنة الديني والسياسي والحضاري1367 – 1840).يذكر المؤرّخان إسطفان الدويهي (تاريخ الموارنة طبعة الشرتوني 1890 ص 493) وشبلي (راجع . Mélanges et Documents II, Beyrouth, 1970 ص 127 – 135) الوجود الماروني في الأراضي المقدّسة، وامتلاك الموارنة كنيسة القدّيس جورج، وتَرِﺩ لاحقًا ﻓﻲ ﺩﻓﺘﺭ T.D. 516 من ﺩﻓﺎﺘﺭ ﺍﻟﺘﺤﺭﻴﺭ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻨﻴّﺔ ﺍﻟﻤﺒﻜّﺭﺓ (راجع المجلّة الأردنيّة للتاريخ والآثار ﺍﻟﻤﺠﻠﹼﺩ ٥، ﺍﻟﻌﺩﺩ ٢٠١١ ،١ﻡ ) ﺨﺎﻨﺘﺎﻥ ﻤﺎﺭﻭﻨﻴﺘﺎﻥ، ﺒﻴﻥ ﻨﺼﺎﺭﻯ ﺍﻟﻘﺩﺱ ﺍﻟﻤﻠﻜﻴّين، ﻤﻤّﺎ ﻴﺩلّ ﻋﻠﻰ وجود ماروني في القدس (راجع أيضا المؤرّخ عارف العارف: ﺍﻟﻌﺎﺭﻑ، ﺍﻟﻤﺴﻴﺤﻴﺔ في القدس ، ﺹ 148–152 وﺍﻟﻘﻀﺎﺓ، ﻨﺼﺎﺭﻯ ﺍﻟﻘﺩﺱ، ﺹ 130 – 132)في رسالة الأخ غريفون إلى الموارنة بحسب الدكتور متي موسى: "كان الراهب الفلمنكي الأخ غريفون أحد هؤلاء الأخوة الفرنسيسكان البارزين، تلقى غريفون تعليمه في باريس، حيث درس اللاهوت واللغة اليونانية. وعلى غرار العديد من الرهبان الأتقياء، تملكته رغبة شديدة لزيارة الأماكن المقدسة في أورشليم، ممّا دفعه إلى القيام برحلة إلى فلسطين قبيل نهاية سنة 1442. وعاد إلى روما بعد عامين يرافقه وفد ماروني إلى البابا يوجين الرابع. من المرجّح أنّ غاية الوفد كانت الاستعانة بالبابا لتقديم المساعدة إلى الكنيسة المارونية وطائفتها. وقد استجاب البابا كما تمت روايته سابقًا، وعيَّن بطرس دي فيرارا موفدًا له إلى الموارنة والملكيين عام 1444. عاد غريفون إلى فلسطين مع بطرس دي فيرارا عام 1444".تشير وثائق سجل محكمة القدس الشرعيّة، رقم 331 (الصادرة في نصف جمادي الثانية في 17 أيّار 1849، ص. 81) إلى الوجود الماروني في القدس وتذكر منهم "فرنسيس ولد مخائيل راحيل" و"هيلانة بنت ياقوب راحيل"، وعند اندلاع الحرب عام 1860 ف ... |