الشاعر على منصّة العالم

17:362014/11/30
A
|
A
|
عباس بيضون - لا أعرف كيف يمكن لسعيد عقل أن يطيق الموت. انه لحظة حقيقة، الأرجح أن سعيد عقل ظل يتفاداها. سعيد عقل لم يكن في يوم إلا تحت الأنظار. لا بد أنه حتى في وحدته كان يتصرف كرجل تحت الأنظار. يتكلم كما يجب أن يكون الكلام، يقيس صوته، يرفعه ويخفضه كما ينبغي أن يفعل رجل يؤدي كلامه أكثر مما يقوله. لا بد أنه كان يحرك يده ورأسه وجسده على هذا النحو. انه دائماً منظور ويتصرف كما يحب ان يرى نفسه تفعل وتتصرف. كان المعلم لكثيرين وطالما نودي بهذا الاسم، فقد كان له حواريوه وتلامذته وكان بينهم القطب والمدار و»المعلم».
كان في نظر نفسه كل شيء، الشاعر والاقتصادي واللاهوتي والعالم. وكان شاعراً بالعربية لا يجاريه في ذلك المتنبي وبالفرنسية في حجم راسين ومالراميه. هكذا كان ظن الرجل في نفسه وليس هذا بالظن فحسب، كان أيضاً بالجهر والإعلان والمواجهة. وبالتأكيد كان سعيد عقل في لبنان بل وفي دنيا العرب كلها، نادراً. إذ كان الشاعر حتى ظهوره هو على المسرح. شيئاً آخر. كان الشعر بداهة وفطرة والشاعر حالم شارد ومفطور، سعيد عقل لم يكن عند نفسه هكذا. إذا كان قال انه يفتعل الشعر ويصنّعه، فإن هذا قد لا يكون سوى صورته عن نفسه. وسعيد عقل لم يكن ليخرج قيد أنملة عن هذه الصورة، ليس الرجل الذي يخرج ما انحبس في نفسه وما تهتك في داخله، بل يمكن القول ان الشعر كان يتحد بمثاله أي اتحاد، ذلك ينطبق على الشاعر أيضاً فهو أيضاً يسمو إلى مثاله ويتكلم من عل ويتخذ مقعداً من الرفعة والاعتداد.
إن وصلنا الشعر بالحياة وفتحناه على الداخل وأنفذناه إلى اللاوعي وإلى الباطن وربطناه إلى الأسرار والألغاز فاتنا ان نجد شيئاً من ذلك عند سعيد عقل، قد لا نأخذ بكلامه عن الوعي في الشعر فقدر من شعره لا يمكن ان يكون إلا ثمرة تركيز وتحديق وقطف من التداعي بحيث يتراءى لنا أن شيئاً خلف الكلام هو الذي وصل، وإن الكلام الذي يشعشع ويتمور ويتألق ليس من صنع الإرادة ومن خطرات الوعي الصافي، بعض شعر سعيد عقل وبعض أبياته من نعم الحدس ونفاذ النفس المروسه والحس المضغوط إلى آخره. بعض أبياته لا يجري عليه نظره في الشعر. لكن هذا شأن كل الشعراء فشعرهم يسبقهم ويتمايز عنهم. انه نفسهم الأخرى وربما مثالهم الخفي، لكن سعيد عقل لم يكن يجد فارقاً بين الحياة والفن، إذ لا نعرف عن سعيد عقل انه كانت له حياة بالمعنى الحميم للكلمة، كانت حياته في الغالب بقدر أدائه وأخلاقه الموروثة في الغالب، والمنتهية إليه من أرستقراطية ضامرة. لم يكن لسعيد عقل حياة غير تلك الموجودة في أدائه هو للحياة، في حضوره المسرحي، فيما يجب أن يكونه وما أجمع الناس عليه. لا نعرف إذا كان أحب أو كان تهتك أو كان شطّ أو شطح؛ كل هذا الذي يشكل مراهقه المرء أو طفولته أو حتى شبابه، كانت حياة سعيد عقل هي كلامه وهي أشعاره وعدا ذلك لم تكن الحياة الحميمة حياة التجارب العارمة حياته. هكذا مر سعيد عقل على الحياة كما لو كانت منصة وعبرها كما لو كانت مسرحاً، وأداها كما لو كانت قصيدة الشعر، نعم هو حياة سعيد عقل، لربما كان الأول بين شعراء جيله الذي فكر بالشعر عميقاً حتى جعله فكراً قبل كل شيء. لربما كان الأول بين لداته الذي نظَّر وشغفه التنظير حتى باتت له نظرية في كل شيء، المفارقة ان سعيد عقل كان المثقف الذي سبق انداده بدون أن تكون له عصابية المثقف ولا توتره ولا تأزمه. هذه كلمات كان سعيد عقل يأباها. ذلك انه كان عند نفسه قريباً من إله يبدع، ولا ينفك يبدع دون أن يكون لهذا الإبداع ثمن باهظ أو أليم.
سعيد عقل مفصلي في شعرنا والأرجح أن الشعر الحديث خرج على نحو ما، من معطفه وان شعره كان منعطفاً لولاه لما كنا هنا اليوم، لكن الشعر الحديث إذ يخرج من عباءة سعيد عقل يبقى فيه أثر من هذه الولادة لا نقول انها تميته ولا نقول انها تحييه، بل نظل نتذكر سابقه سعيد عقل ونحن نرى هذا الشعر يتخبط أو يخرج من تخبطه.
سعيد عقل الجميل، المحافظ، مع مثاله الريفي وأحلامه القومية، مع كل شطحه. هو بالتأكيد نبتة رائعة من هذا البلد الذي يتهدم الآن والأرجح انه لم يشعر بهذا الدمار، فسعيد عقل لا يرى إلا ما يريده وما يهواه.

المصدر: السفير

على مدار الساعة
على مدار الساعة
اشترك بالنشرة الاخبارية للموقع عبر البريد الالكتروني