اليوم تطوى صفحة الفراغ الرئاسي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية لم يعد اسمه خافيآ على احد، من هنا يحق للبنانيين ان يأملوا بحدوث انفراجات وايجابيات بعد سنتين ونيف من الجمود والمراوحة.
مما لا شكّ فيه ان خطوة انتخاب رئيس جديد للجمهورية توقف حال الإنحدار والإنزلاق نحو الهاوية فيما لو استمرّ الوضع على ما هو عليه من فراغ مؤسساتي وتراجع في الإنتاجية والخدمات وتخفف من التوتر السياسي والطائفي في البلاد .
ولعل الأوضاع الإقتصادية والمالية والعقارية هي التي ستنتعش في الدرجة الاولى بعدما تضررت اكثر من غيرها ودخلت في حالة نزف واستنزاف وحصل تراجع في كافة المؤشرات الإقتصادية، وارتفع الدين العام وتضاعفت معدلات البطالة وازداد عدد الفقراء وتراجعت تحويلات اللبنانيين من الخارج .
وهذا ما حدا بالهيئات الإقتصادية في لبنان الى قرع جرس الإنذار وحثّ القوى والقيادات السياسية على إدراك حجم المخاطر التي تهدد الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي في حال الاستمرار في الفراغ الرئاسي.
انتخاب رئيس جديد للجمهورية خطوة مهمة ولكنها غير كافية، من هنا المطلوب تحويل انتخاب الرئيس الى صدمة ايجابية حتى لا نصل بعد اشهر معدودة الى خيبة وإحباط، والمطلوب من القوى والقيادات السياسية ان تجعل من الإنتخاب الرئاسي مدخلاً الى حل وانفراج وليس مدخلاً الى الخلافات والتأزم، وان لا تكون نهاية الأزمة الرئاسية بداية لأزمة حكومية جديدة سيكون وقعها وتأثيرها اشد وطأة واكثر فداحة على الوضع السياسي والإقتصادي والمالي.
الوضع لم يعد يحتمل هزات وانتكاسات وازمات جديدة، حيث تبرز في هذه المرحلة اولوية الأمن السياسي والإقتصادي الإجتماعي والذي يفرض القيام بخطوات سريعة ابرزها:
اولاً: توسيع حالة الوفاق الوطني من اجل توسيع القاعدة السياسية والشعبية للعهد الجديد والالتفاف حول الرئيس المنتخب ودعمه، فالتفاهمات الجانبية ثنائية كانت ام ثلاثية لا تفي بالغرض ولا تلبي الحاجة الى ترسيخ الإستقرار السياسي، وبالتالي لا بد من توسيع هذه التفاهمات في اطار الحوار الوطني الذي يجب ان يُستأنف في اقرب وقت ممكن، ولا بد من الإنتقال الى مرحلة التفاهم الوطني الشامل والى التسوية المتكاملة التي لم يكن من الممكن انجازها قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، من هنا يجب استئناف الجهود بشأنها من دون استثناء اي من القوى والمكونات الأساسية السياسية والحزبية في لبنان.
ثانيآ: لا يمكن انجاز اي تسوية ولا يمكن اجراء اي حوار وطني من دون الرئيس نبيه بري رجل الاعتدال والحوار والذي كان وما زال “صمّام الأمان” في الحكم والخبير في ادارة التوازنات والخلافات وفي ضبط الإيقاع السياسي في منطقة تعيش صراع طائفي ومذهبي خطيرين.
فإذا كان الرئيس نبيه بري لسبب ما او “لخطأ” ما جرى استبعاده عن تسوية رئاسية اُعدت بسرية ولم يكن من صانعيها، فإن الرئيس بري سيكون دوره فاعلاً ومؤثراً في الإستحقاق الحكومي ويجب ان يكون مع كتلته مكوناً اساسياً من مكونات الحكومة الجديدة بعيداً عن خيارات تصعيدية ولعبة المعارضة التي لا تشبه الرئيس نبيه بري، ولا تمت بصلة الى دوره الوطني التوفيقي الجامع ولا الى موقعه كرئيس لمجلس النواب.
لا مناص من الإنفتاح على نبيه بري ومحاورته، وهو الذي يفاوض عن نفسه وايضاً عن “حزب الله” الذي يؤيده في معركة الحكومة بعدما لم يستطع مجاراته في معركة الرئاسة، فأي حكومة جديدة لا يمكن ان تشكل من دون الثنائي الشيعي “حركة امل وحزب الله”، اللذين يخوضان بالتكامل والتضامن معركة الحكومة بعدما افترقا حبياً في محطة انتخاب رئيس الجمهورية ونجحا في تنظيم الخلاف الرئاسي، واقولها بكل حرص وموضوعية انه اذا ما شُكلت حكومة من دون ” الثنائية الشيعية” لا يمكن لهذه الحكومة ان تحكم ولا ان تستمر.
ثالثآ: يجب تشكيل حكومة في اسرع وقت ممكن، لأن انطلاقة العهد ستكون ضعيفة ومتعثرة اذا ما انتقلنا من ازمة رئاسية الى ازمة حكومية، ومن فراغ رئاسي الى فراغ حكومي، وفي مثل هذه الحال سيواجه العهد الجديد موجة من التشكيك بقدراته وحالة من التآكل في رصيده ومعنوياته ومصداقيته، وسننتقل من “الفراغ في الرئاسة” الى “رئاسة في الفراغ” وستستمر الأزمة الحالية بأشكال واوجه جديدة.
ان عملية تشكيل الحكومة لا تعني حصراً توزيع الحصص وتحديد الأحجام وانما تعني اولاً وقبل كل شيء آخر تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تستثني احد وتتوافر فيها مقومات وعناصر الإنسجام والإنتاجية.
رابعآ: في ظل ما يسرب تلميحآ او تصريحآ او تسريبآ عن امكانية تعيين حاكم مصرف مركزي جديد اعطي هذه النصيحة من منطلق حرصي على نجاح العهد في ظل اوضاع مالية واقتصادية صعبة:
1- ان دقة الأوضاع المالية والاقتصادية لا تسمح المس بحاكم مصرف لبنان صمام الامان النقدي في البلاد، خصوصآ في ظل التوترات والأزمات والضغوط التي تعيشها المنطقة والتي باتت تهدد ليس فقط الإستقرار الإقتصادي في لبنان وانما الإستقرار النقدي ايضاً والذي يستمر مستقرآ بفضل سياسيات مالية ينتهجها حاكم مصرف لبنان لحماية استقرار الليرة اللبنانية.
2- الأهمية التي يوليها المجتمع الدولي لـشخص رياض سلامة ودوره في حفظ الإستقرار المالي والنقدي، من خلال ما قام به في الحفاظ على قيمة الليرة وقوتها وفي تأمين سلامة القطاع المصرفي وازدهاره، اذ بلغ الاحتياطي بالعملات الاجنبية الذي يملكه المصرف المركزي مستويات قياسية هي الاعلى في تاريخ لبنان، واستطاع خلالها لبنان ان يتجاوز كل الأزمات بما فيها الأزمات المالية التي هزت العالم والأزمات المتفجرة التي دمّرت المنطقة.
انطلاقآ من ذلك وحرصآ على نجاح العهد ندعو الجميع الى الحفاظ على دور واستقلالية مصرف لبنان وتحييده عن الصراعات السياسية كون البلاد لا تحتمل اي خضة مالية في هذه الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، من هنا ندعو الى التجديد لحاكم مصرف لبنان قبل انتهاء ولايته في ايار 2017 نظرآ للثقة الكبيرة التي يوليها اليه اللبنانيون على صعيد مدخراتهم وعملتهم الوطنية.
في الختام اقول الى الرئيس المنتخب واركان عهده بكل محبة وحرص، اذا اردتم انطلاقة سليمة وقوية للعهد وهذا ما نريده ونتمناه، عليكم استيعاب الجميع وعدم استبعاد احد، وفتح صفحة جديدة بعيدة عن التحدي والكيدية السياسية.
دافيد عيسى
سياسي لبناني



