جينا سلطان - يستقرئ الكاتب اللبناني الفرنكوفوني في روايته "التائهون" مستقبل بلده، ويتعقب بموضوعية تاريخ الأحزان الكبيرة والخيبات المتراكمة وصولا إلى متواليات العنف والخزي المتشابكة، مما يتيح له كمؤرخ مثقف إعادة تقويم المنزلق الأخطر في التاريخ اللبناني الحديث، الذي ساهم بنصيبه الوافر في خلق الظاهرة العالمية المسمّاة بالمد الأخضر أو الأصولية الإسلامية وما يترافق معها من عدائية مضادة.على أعتاب الخمسين وقف بطل الرواية المغترب آدم، منتحياً ركناً هادئا في فندق جبلي لبناني، ليعقد المصالحة مع ماضيه الفردي والجمعي بصفته "المكلف بالاندثارات". وهي ترجمة درامية لهزائم شلة من الأصدقاء، واجهوا تشنجات النزاعات الطائفية وعصف الحروب المترادفة، ما جعل كلاً منهم شاهداً وشهيداً ومشاركاً في تشظي الهوية الوطنية ومأساة الشتات اللبناني.تحمل الرواية البداية والنهاية نفسيهما، وتنقسم فصولاً مساوية لعدد الايام التي استغرقتها المصالحة مع تشظي الوطن. فالاغتراب الحقيقي ليس في اختيار المنفى الوجودي الملائم في حالة آدم، بل في انفصال الواقع عن الوطن الحلم. بينما الاغتراب، في حالة نعيم، هو في جوهر الشخصية اليهودية العربية. أما رامز المسيحي المشرقي فيواجه الاغتراب بين أعباء الثروة والتزامات الصفاء الروحاني. يبقى لمراد أن يواجه الإدانة بصفته ثريّ حرب. ويترك لبلال دور شهيد الأدب، الذي يظن الاشتباكات المحلية موازية للحرب الأهلية الاسبانية. في المقابل تجسد حبيبته سميراميس متاريس الأمل المتصدعة في جسد التآخي الديني.تمثل جوقة الشباب في أول السبعينات من القرن الماضي، صورة تخطيطية مشرقة للغد، مما يجعل سلوك مراد اثناء الحرب خيانة للقيم المشتركة. فبدافع التعلق بالوطن، يرفض الرحيل في بداية الاحداث، مما يضطره لإيجاد بعض التسويات الخطيرة. في المقابل يختار آدم الرحيل حين تبدأ أعمال القتل، مجنبا نفسه عبء المحاكمات الأخلاقية، فإذا به يكون الوجه الآخر لمراد. فالأول تنقذه تخلفاته، فيفر ويفلت من العقاب، والثاني تضلله فضائله، فيتورط ويتسربل بالعار. بين الحالتين ترتسم صورة بلال كأيقونة للثوريين الحالمين، الذين يسقطون ضحية الاشتباكات المبتذلة عند المتاريس الأمامية. أما الحرب فهي الرابح الأكبر، إذ لا يسلم منها بيت او ذكرى. يفسد كل شيء؛ الصداقة والحب، الاخلاص وصلات القربى، الايمان والوفاء، وحتى الموت نفسه يغدو ملطخا مشوها. وفي اختزال دقيق تدشن الحرب الأهلية نهاية الحضارة المشرقية، حين يترك كل لبناني نفسه يساق، تحت حراسة مشددة الى سجن عقيدته الايمانية الملزمة. بعض الشخصيات تستطيع النجاة من خلال آفاق غير متوقعة، مثل ألبر الذي يقرر الانتحار، ويرسل نعياً لأصدقائه قبل أن تختطفه إحدى الميليشيات المسلحة، بغرض استرجاع مخطوف كعملية مقايضة. يحتجز في كاراج ويبقى رهينة لمدة طويلة لأنه كان بلا اهل وليس لديه الكثير من الاصدقاء. وحين يقتل ابن صاحب الكاراج يأخذ ألبر مكانه، ثم يسافر إلى أميركا.في تجربة الصديقين رامز المسلم ورمزي المسيحي، تحدٍّ كبير لعزلة التشنجات المذهبية. فطوال ربع قرن يرتقي الاثنان معا، ويؤسسان امبراطورية ويصيبان القدر نفسه من الثروة. لكنهما لا يستخلصان العبر نفسها. فالجاه يظهر بقدر اقل في بيت رمزي، إذ كان متواضعا ومتحفظا، ويتباهى رامز ويستعرض ثروته، فينعكس ذلك على زوجة رمزي التي تعيش وضعها كالعقاب. وبينما يواجه رامز كراهية الأجنبي لثرائه بحكم انتمائه إلى حضارة مهزومة وشعب مهزوم، ينسحب رمزي إلى حياة الزهد والتأمل في الدير.تتفرع الحوارات في الرواية مسارات عدة تتقصى ضريبة الحرب اللبنانية. فنعيم يسمّي اليهودي العربي شائعة زائفة يتولى التاريخ تكذيبها، معتبرا ارض الميعاد في البرازيل، حيث يجد الاحتواء الانساني بعيدا عن التركيبة المعقدة التي ادخلتها الصهيونية على الشتات العبراني. فسواء أكان المرء يهوديا ام عربيا، فليس امامه خيار سوى كراهية نفسه وكراهية الاخر. وبينما يتحسر آدم المؤرخ على انفصال قومه عن ضمير العالم الغربي، يتحسر نعيم على انفصال قومه عن اهم الادوار التاريخية التي اضطلعوا بها على مر القرون، وهو دور الخميرة الانسانية العالمية. ومع نضال المنتمي إلى اصحاب اللحى، يتجه الحوار نحو تصفية الحسابات، وتتخذ عبارة "الاذية المتبادلة" التي يصف بها المؤرخ العدائية المتبادلة بين عالمي المسيحية والاسلام، مكانها كمحاولة لفهم الأسباب الحقيقية للهزيمة العربية والاندحار التاريخي المدوي لحضارتنا.عند مناقشة ثنائية الالحاد والإيمان بين الأصدقاء، يجد المؤرخ الفرنسي أكثر من الفرنسيين، أن الغرب هو المؤمن في علمانيته، والمتدين في إلحاده. ففي المشرق لا يكترث الناس للعقائد الايمانية بل للانتماءات، والغلو الديني هو شكل من اشكال القومية والاممية. وهذا يقوده إلى غربلة تداعيات الشيوعية والرأسمالية. فالأولى استعبدت الناس باسم المساواة، والثانية باسم الحرية الاقتصادية. مما يجعل محاربة العجل الذهبي المسيطر على العالم أهم من العلمانية، لأنه اسوأ تهديد للديموقراطية.يعتبر آدم القرن العشرين قرن الفظائع العلمانية ويتنبأ بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن العودة الى القمع، كنتيجة حتمية لصعود المد الأخضر والتيارات المعادية له. وهو ظاهرة عالمية حلت محل المد الأحمر، الذي قسم العالمين ضفتين متحاربتين.يلبس معلوف الرواية هواجس التغلب على رهاب الماضي، لتصفية الحساب مع اشكال الحنين المفرط بعد ربع قرن من الاغتراب، مما يجعلها أقرب إلى الحوار الداخلي، والمناجاة التي تبارك عهد الأصدقاء وتعترف بدورهم الكبير في حياة المؤرخ، باعتبارهم الاشجار التي تخفي الغابة. فهم يطيلون فترة الحماية من الاوهام الذاتية، التي بفقدانها مبكرا يفقد الإنسان شجاعة الاستمرار في العيش. هذ ... |