دافيد عيسى
فيما اللبنانيين فاقدين الثقة بقدرة القوى السياسية على التغيير، وبينما غالبية الطبقة الحاكمة في لبنان يتصارعون على الحصص والمغانم، ويطلقون الكلام التصعيدي ويجيشون الناس عبر شد عصبهم الطائفي، ويحاولون التفريط بما تبقى من الكيان اللبناني مقدمين مصالحهم وطموحاتهم الخاصة والشخصية على مصلحة لبنان وشعبه، وفي ظل وضع خطير وحساس تعيشه المنطقة ووضع لبناني داخلي صعب ومعقد، ابتدع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هندسة مالية تهدف الى دعم الليرة اللبنانية وتعزيز الموجودات في العملات الاجنبية والى توفير السيولة اللازمة لتدعيم ميزانيات المصارف ولتمويل الاقتصاد اللبناني بقطاعيه الخاص والعام.
هذه الهندسة التي ابتدعها هذا الرجل الساهر على نقدنا وعملتنا ادت وفي هذه الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة الى خفض الفائدة على الليرة اللبنانية وسمح ايضآ للخزانة اللبنانية بالاستدانة تبعآ لحاجاتها بفوائد اقل مما كانت عليه قبل هذه الهندسة، وهذا ما جعل البيوت المالية العالمية تنصح زبائنها وعملائها بالاستثمار بسندات اليورو بوند المصدرة من الجمهورية اللبنانية بالدولار الاميركي والى انخفاض الفوائد على اليورو بوند في الاسواق الثانوية.
وبالأمس وفي الوقت التي تعيش فيه المنطقة الحروب والويلات والدمار والارهاب وركود اقتصادي ومالي كبيرين وخطيرين، تصدّر اسم حاكم مصرف لبنان لائحة مجلة “Global Finance” لأهم مدراء وحكام المصارف المركزية في العالم تقديراً لإنجازاتهم وتحقيقهم افضل أداء لعام 2016، واستناداً الى تقييم في مجالات عدة كالحدّ من التضخّم والنمو الإقتصادي واستقرار العملة وادارة سعر الفائدة.
هذه ليست اول جائزة عالمية تُعطى لـ “رياض سلامة” ولن تكون الأخيرة، انها مسيرة مديدة حافلة بالنجاحات والإنجازات لحاكم مصرف لبنان الذي حاز لأكثر من مرة وعن استحقاق وجدارة لقب ” افضل حاكم مركزي في العالم” حتى بات مثالاً يُحتذى عند حكام مصارف مركزية عربية ودولية.
البنك الدولي وكل المؤسسات المالية العالمية الاخرى اعلنت رياض سلامة شخصية لبنانية عالمية مميزة ورائدة في عالم النقد والمال، وكبار خبراء المال في العالم معجبون بعقل هذا الرجل الذي استطاع تحويل لبنان الى بقعة مالية آمنة وملائمة للإستثمار.
أليست مفارقة ان ينال حاكم مصرف لبنان في احلك الظروف التي تعيشها المنطقة وادقها جائزة افضل حاكم مصرف مركزي في العالم؟ وان يعترف له الخبراء والمسؤولون الدوليون بأن السياسة الحكيمة التي اتّبعها نجحت في ان تحفظ استقرار لبنان النقدي والمالي وثقة المستثمرين والمودعين به في اصعب وادق المراحل؟
لن نعود الى انجازات كثيرة تحققت منذ تسلم رياض سلامة مهامه في المصرف المركزي ولن نذكر بما قام به هذا الرجل في اصعب الظروف التي عاشها لبنان منذ العام 2005 عندما تفجّرت اوضاعه الداخلية اغتيالات واعتصامات وازمات سياسية متناسلة، مروراً بالعام 2010 وما تلاه في العالم العربي من ثورات وحروب زعزعت كل استقرار المنطقة وصولاً الى يومنا هذا، وسوف نكتفي بما فعله وحققه خلال عامي 2015 و 2016 في ثلاث مجالات على الأقل:
1- تثبيت الإستقرار النقدي والمالي في وقت يتعرض الإستقرار السياسي والحكومي لتصدع واهتزاز، وفي وقت تشهد مؤسسات الدولة واكثرية اداراتها فسادآ وفراغآ وجمودآ وتراجعآ، ظلت مؤسسة مصرف لبنان متمتعة بكامل حيويتها وجهوزيتها في التعاطي مع اي وضع قد ينشأ واي ازمة يمكن ان تستجد.
وهذا الثبات في الإستقرار النقدي والمالي بمعزل عن الأوضاع السياسية المتأزمة والأوضاع الأمنية الهشّة والأوضاع الإقتصادية الصعبة، هو نتاج وثمرة سنوات من الجهد المركز وبعد النظر والخطط والإستراتيجيات البعيدة المدى التي ادّت الى تحييد الوضع النقدي عن التجاذبات والصراعات السياسية ومنع التدخلات السياسية في القرارات والسياسات المالية والمصرفية .
2- تنمية القطاع المصرفي ومدّه بكل اسباب الصمود والتقدم رغم ثقل الأوضاع والضغوط التي اصابت سائر القطاعات الإقتصادية في لبنان.
رياض سلامة ادرك منذ البداية اهمية القطاع المصرفي وانه العمود الفقري للإقتصاد اللبناني وسرّ صموده وعافيته ومفخرة لبنان وصورته المشرقة في الخارج، وجهد كثيراً في إثبات وتثبيت نقاوة القطاع المصرفي وسلامة عملياته المالية الخاضعة لرقابة مشدّدة. وقد تمكن سلامة بفضل شفافيته وصدقه والتزامه بالأصول المصرفية وجزمه في تطبيق القوانين العالمية من الحصول على ضمانات وتعهدات اميركية بعدم التضييق على المصارف اللبنانية.
وفي موازاة الحملة الدولية، وضع حاكم مصرف لبنان في خلال الشهور الماضية سياسات واتّخذ اجراءات واصدر قرارات هدفت كلها الى الحفاظ على استقرار القطاع المصرفي ونمّوه وتطويره وتعزيز الثقة به وجعله مواكباً للتطورات العالمية وبطريقة تجمع وتوفّق بين خصوصيات لبنان اقتصادياً ومالياً وبين احترام والتزام المواصفات والمعايير الدولية.
وهكذا يستمر القطاع المصرفي اللبناني قطاعاً مستقراً سليماً متمتعاً بهيكلية متوازنة ومرتكزاً الى قاعدة موارد مالية متنوعة ومتينة اضافة الى تطوير مؤسساتي وعنصر بشري كفوء ومتفوق.
3- اجتياز اصعب وادقّ الأزمات والإختبارات المالية والنقدية التي واجهها لبنان هذا العام وتمثّلت في العقوبات المالية الأميركية المفروضة على “حزب الله” الذي يتمتع بقوة تمثيل وزارية ونيابية وسياسية.
قبل ايام جاء وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية توماس شانون الى بيروت ومكث اياماً وحرص في ختام زيارته على الإشادة بمصرف لبنان وبحاكمه ودوره في ادارة السياسات المالية والنقدية والمصرفية وتكييفها مع المتطلبات الدولية.
هذه الإشادة الأميركية لا تأتي من فراغ وانما تستند الى حقائق والى واقع والى جهود ضنينة بذلها رياض سلامة طيلة سنوات، وتلتقي مع ما يفكر به الشعب اللبناني ويكنّه من تقدير واحترام لهذا الرجل الذي يعتبرونه صمّام الأمان المالي والنقدي في لبنان.
قي الختام نقول إذا كان اللبنانيين فقدوا ثقتهم بمسؤولين سياسيين وقادة حزبيين وباغلبية مؤسسات وادارات الدولة، فإنهم لم يفقدوا احترامهم ولا ثقتهم بمؤسسات ناجحة ومنتجة وبالقيمين عليها وعلى رأسها مصرف لبنان والجيش اللبناني والامن العام اللبناني وغيرهم.