دافيد عيسى
لدى اللبنانيين بشكل عام رغبة جامحة في طيّ صفحة العام الذي يمضي وتجاوزه سريعاً لفتح صفحة العام الجديد ” لعلّ وعسى “. ما عادوا يهتمون بقلب صفحات العام 2016 واستعراض احداثه واستخلاص العبر والدروس وانما يتلهفون الى معرفة واستكشاف ما ينتظرهم وما يخبئ لهم العام 2017 من مفاجآت في هذه المنطقة المضطربة التي لا يمكن الركون اليها.
ولكن لا يمكن التوغّل في العام الجديد الا انطلاقاً مما حدث في العام الماضي لأن العام 2017 يبدأ من حيث انتهى العام 2016 الذي ظلّلته اربعة عناوين كبيرة:
1- الأزمة السياسية الني بدأت منتصف العام 2014 مع شغور مركز رئاسة الجمهورية وتعمّقت وتمدّدت الى مختلف مؤسسات الدولة وتسبّبت بحال من الجمود والشلل. وهذه الأزمة انتهت على خير مع نهايات العام وكُتب لها نهاية سعيدة عندما جرى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وشُكلت حكومة جديدة برئاسة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري. ولكن انتهاء الأزمة على هذا النحو وعلى اساس تسوية رئاسية – حكومية متوازنة عكست ميزان القوى العام في لبنان والمنطقة، لا يعني ان الأزمة انتفت بكل تشعّباتها وحلقاتها طالما انها ابعد من ازمة رئاسة وحكومة وتلامس خط ازمة حكم ونظام بدليل ان اللبنانيين لم ينجحوا في ادارة شؤونهم بأنفسهم وفي اقامة وضع سياسي ومؤسساتي مستقر عندما اُتيحت لهم الفرصة لأن يفعلوا ذلك منذ 11 سنة بعد الخروج السوري من لبنان.
2- الأزمة الإقتصادية – الإجتماعية التي وصلت في العام الماضي الى نقطة الذروة مع وصول حال اللبنانيين المعيشية الى ادنى المستويات. فهذه الأزمة المتجزّرة والمترسّخة في كل المجالات ليست فقط نتاج الأزمة السياسية وانما هي حصيلة عوامل متراكمة تبدأ بالفساد المستشري في كل الدولة ومؤسسات الحكم وتمر في غياب الإهتمام بالإنسان وكرامته وبالعدالة الإجتماعية ولا تنتهي عند طريقة التفكير والممارسة والذهنيات القاصرة والمتخلفة وحيث يتساوى هنا الحكام والمحكومون في تحمّل المسؤولية. الحكام بسبب تقصيرهم واهمالهم وفسادهم والمحكومون بسبب تغاضيهم وعدم استخدامهم سلاح المحاسبة والعقاب عندما يحين اوانه في الإنتخابات النيابية.
من مفارقات العام 2016 انه كشف وبمناسبة الإنتخابات البلدية وبموجب تحركات شعبية في الشارع عن عمق ازمة الثقة بين الطبقة السياسية الحاكمة وبين الناس الذين يكادون ان ييأسوا من امكانية اي تغيير وتحسين في اوضاعهم وتمتلكهم مشاعر الخيبة العميقة والحذر الشديد ازاء اي وعود وعهود جديدة. ولا مبالغة ان قلنا ان المسؤولين والسياسيين صاروا في وادٍ والناس في وادٍ آخر وان التقريب بين “الطرفين والضفتين” يتطلب جهوداً مركزة وانجازات عملية وملموسة.
3- الأزمة غير المسبوقة في العلاقات اللبنانية – الخليجية بشكل عام واللبنانية السعودية بشكل خاص. فلم يسبق ان بلغت هذه العلاقات مثل هذا المستوى المتدنّي وان عرفت انقطاعاً وحظراً خليجياً على لبنان، سفراً واستثماراً وان شهدت الجاليات اللبنانية الناشطة والفاعلة في دول الخليج مثل هذا الشعور من الإضطراب وعدم الإستقرار.
صحيح ان هذه الأزمة شهدت انفراجات في نهاية العام مع إقدام السعودية على مباركة التسوية السياسية ومع عودة لبنان الى اهتمامات الدول الخليجية بعد سنوات من اللامبالاة والإهمال. ولكن هذه الأزمة ما زالت كامنة واحتمالات تجددها موجودة اذا لم يقدم الخليجيون واللبنانيون على مراجعة هادئة للأسباب التي ادّت اليها وعلى وضع معالجات تمنع عودتها.
4- الإنجازات النوعية التي تحققت على يد مؤسستين: المؤسسة العسكرية (الجيش اللبناني) وكل الأجهزة الأمنية المساندة والمكمّلة، والمؤسسة المالية النقدية (مصرف لبنان) وكل القطاع التابع لها والموضوع تحت رقابتها ووصايتها.
وهاتان المؤسستان بقيتا تعملان بأقصى طاقتهما عندما كانت كل المؤسسات الأخرى معطلة وعاطلة عن العمل، وهما اللّتان اوجدتا الإستقرار الأمني والإقتصادي في وقت كان الإستقرار السياسي والمؤسساتي يعاني اهتزازاً عنيفاً.
وليس المجال هنا لتعداد انجازات حصلت بقيادة وإشراف العماد جان قهوجي في محاربة الإرهاب وإحباط مخططات الإرهابيين وتفكيك خلاياهم ومطاردتهم اينما وُجدوا، ولا للتذكير بالسياسات والهندسات المالية التي قام بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وكان لها ابلغ الأثر في حفظ الإستقرار المالي والنقدي وفي حفظ قيمة الليرة وثباتها وفي احتواء ازمة المديونية العامة. ولكن لا بدّ هنا من التذكير بأن ثقة المجتمع الدولي انحصرت في السنوات الماضية في هاتين المؤسستين الجيش ومصرف لبنان في وقت تزعزت الثقة بباقي المؤسسات والطبقة الحاكمة، وهذا ما يفسّر ان هاتين المؤسستين حظيتا بدعم المجتمع الدولي وتقديره، وساهمتا في إبقاء الوضع اللبناني متماسكاً وفي منع وصوله الى مرحلة الإنهيار.
في ضوء ما حصل وما تحقق في العام الماضي، نتطلع الى عام جديد افضل تكون فيه الإنجازات اكثر والخيبات اقل … واستناداً الى وقائع وتجارب وامثولات العام 2016 فإن الإهتمام في العام 2017 يجب ان يركز على النواحي والمسائل التالية:
1- المضي قدماً في تطويق واحتواء الأزمة السياسية، اذ لا يكفي ان ننتخب رئيساً للجمهورية ونُشكّل حكومة جديدة كي تستقيم الأمور وتنتهي المشاكل ولا يمكن التوقف عند هذا الحد والنوم على حرير “عهد جديد” وان المطلوب استكمال ما بدأ والدخول في مسار إصلاحي انطلاقاً من قانون انتخابات جديد يبقي المدماك الأساسي في بنيان الإصلاح السياسي والشرط الأول لإقامة توازن طائفي وطني وعدالة في التمثيل الشعبي والسياسي والطوائفي. واما العودة الى قانون الستين فإن ذلك لا يعني الاّ تمديداً مقنّعاً ومموّهاً للمجلس النيابي واعادة انتاج للطبقة السياسية ذاتها. واما التذرّع بعدم الإتفاق على القانون الجديد لإجراء الإنتخابات على اساس قانون الستين فإنه تذرّع واهٍ يكشف تواطئ الطبقة السياسية فيما بينها.
2- اعطاء اولوية مطلقة للقضايا والمسائل الإجتماعية والإقتصادية التي لها صلة مباشرة بحياة الناس ورفاهيتهم ومستوى معيشتهم، والتي لا ارتباطات وخلفيات اقليمية لها ويمكن البتّ بها والتقرير بشأنها اذا توافرت العزيمة والإرادة السياسية. وحسناً فعلت الحكومة عندما اختصرت البيان الوزاري ولم تغدق الوعود الفارغة وعندما حددّت المشكلة في غياب الثقة وحددت الهدف في استعادة هذه الثقة على مستوى الداخل والخارج، وعندما اكدّت على الأولويات المعيشية والحياتية واعطتها الإهتمام على حساب مسائل سياسية واقليمية لا طائل منها وانما تُستخدم عادة كذريعة للهروب من استحقاقات داخلية ولتبرير عدم الإقدام وعدم المبادرة الى المعالجة.
3- اعادة علاقات لبنان العربية والخليجية الى مستواها المعهود ووضعها الطبيعي وعلى اساس “الدور – الرسالة” للبنان في ان يكون مركز تلاقٍ وتفاعل ايجابي لمختلف الصراعات والخلافات ولحوار الحضارات والثقافات والأديان، وان يكون جسر عبور الى سياسات الإنفتاح والإعتدال والحوار بين دول المنطقة وشعوبها.
4- الدعم المطلق للجيش والأجهزة الأمنية في حربها المفتوحة على الإرهاب والتي لا تحتمل ادنى تساهل واسترخاء. ولا يكفي ان يكون الجيش متمتعاً بدعم دولي اذا لم يكن محاطاً بإلتفاف وطني من حوله ومستنداً الى ارضية وفاق داخلي. فمن دون امن، لا شيء، لا سياسة ولا اقتصاد ولا استقرار … ومن دون وفاق داخلي ووحدة وطنية “لا امن” في بلد “الأمن السياسي” هو الأساس والمرتكز.
في نهاية العام 2016 استعاد لبنان استقراه وتوازنه السياسي والمؤسساتي… ومع بدايات 2017 نأمل ان يحافظ طيلة هذا العام على استقراره الأمني لأن الأمن هو التحدي الأكبر والأخطر خصوصاً مع بداية نهاية الحروب الكبيرة في سوريا واشتداد الصراع بين الحرب والتسوية.