محمد نزال – الأخبار
هل يُمكن لحزب الله أن «ينأى بنفسه»؟ قبل ذلك، ما «النأي بالنفس»؟ غايته، الآن وهنا، أن يبتعد الحزب عن السعوديّة ويُفارقها. هكذا تقول العربيّة (اللغة) وفق ابن منظور. لكن المسألة ليست لغويّة، تماماً، مع التسليم بفصاحة حكّام العربيّة السعوديّة وبلاغتهم طبعاً. عموماً، هذه مقدور عليها، بل هي مطلب قديم للحزب.
المسألة في الفحوى. يعني أن ترى شعباً، هو أحد أفقر شعوب العالم أصلاً، يُسحَق ويُسلَخ ويُحرَق، فتلتزم الصمت، أقلّه، إن لم تُبارِك وتُهلّل وتَمدح. ربّما لم يُزعِج السعوديّة انخراط الحزب في وجهها، ميدانيّاً كما تقول، بقدر «الحملات الإعلاميّة» التي تُشنّ ضدّها. العبارة الأخيرة وردت في كثير مِن بيانات «الاستغاثة» أخيراً. هيبة الممالك لا تحتمل ذلك. بهذا المعنى، هل يُمكن لحزب الله أن ينأى بنفسه؟
جواب هذا السؤال يستدعي محاولة فهم لعقل الحزب في هذه القضايا. خطابات السيّد حسن نصرالله، تحديداً تلك التي جاءت إثر العدوان على اليمن، تُسهّل المهمّة. ما الذي يجعل قائد مقاومة، عرفه العالم بتحرير بلاده مِن الاحتلال الإسرائيلي، وباستشهاد نجله على ذاك الدرب، يقول: «لو سألتني، أقول إنّ أشرف عمل قمت به، طوال حياتي، هو ذاك الخطاب الذي ألقيته في اليوم التالي للحرب السعوديّة على اليمن. هذا أعظم شيء عملته في حياتي». ذهب، في مفاجأته لكثيرين، أبعد مِن ذلك: «كان (الخطاب) أعظم مِن حرب تمّوز. هذا إحساسي. هي كلمة حق. الشعب اليمني مظلوم وغريب ومتروك، وقد تجاوز في مظلوميّته الشعب الفلسطيني». هذا ليس عابراً. هذه محطّة مفصليّة في تاريخ نصرالله وحزبه. مَن يعرف مركزيّة فلسطين في وعيه، وما قُدّم على دربها، ثم يسمع هذا القول عن اليمن، يَعرف جسامة الموقف. إنّه ينطلق مِن ثقافته الإيمانيّة، مِن ذاك الحديث النبوي (الوارد عند السُنّة والشيعة) وفيه: «إنّ أعظم الجهاد كلمة حقّ عند سُلطان جائر». ورد هذا الحديث على لسان السيّد، مراراً، وإن في مناسبات مختلفة. مفردة «السُلطان» تلك، عندما ترد في التراث الإسلامي، فلا يُقصد بها غالباً العدو الخارجي، حيث «دار الحرب»… بل السُلطان المحلّي، المُسلِم، الذي يواجَه بداية بـ«كلمة حقّ» في وجهه، وصولاً إلى خلعه وفق مشروعيّة «القيام على الحاكم الظالم». نصرالله ينطلق مِن هذه الاقتناعات. هذا يُساوي عنده دينه وعقيدته وكلّ منظومته الأيديولوجيّة. هذه قالها صراحة: «إن لم آخذ هذا الموقف، فهذا يعني أنّ لا علاقة لي بالقرآن والنبي والعترة». موقف يُساوي دينه بالكليّة، وبالتالي، عنده تحديداً، يُساوي وجوده. أن تطلب مِن أحد هذه رؤيته للعالم، أن «ينأى بنفسه»… فأنت تطلب منه أن ينأى بنفسه عن نفسه. تطلب ضدّه بنيويّاً. بالتأكيد، يتوفّر الحزب على «براغماتيّة» في سلوكه، وقد لوحظ ذلك سابقاً، ما كان يدفع البعض إلى الاعتقاد بأنّه: وأخيراً «دخل في اللعبة»، أو: وأخيراً وقع في المصيدة. كان هؤلاء يُصدمون، عند أقرب مفترق، لحظة رؤيتهم الحزب بعد ذلك في أعلى مراحل «الراديكاليّة». يحصل هذا عندما لا يُفهَم الحزب على حقيقته. مثل أن يَخلط «الباحثون» بين قطعيّاته التي لا تساهل فيها ــ ومدارها «تأدية التكليف» بمعزل عن النتائج، فلا يجوّز لنفسه «التقيّة» فيها ــ وبين «مساحة الفراغ» التي تحتمل عنده الأخذ والردّ، في إطار ما يوافق «المصلحة العامة». قد يبدو هذا إسقاطاً «طوباويّاً» على الحزب. لكن التجربة أمامنا. صدمات كثير مِن الباحثين و«الخبراء» في شؤون الحزب، وخيبات تحليلاتهم المتكرّرة، على مدى أكثر مِن ثلاثة عقود، جديرة هي نفسها بأن تُحلّل ويُستنتج مِنها فهماً.
في إحدى خطبه التي تلت خطبته الشهيرة، الأولى، بعد بدء العدوان على اليمن، كان نصرالله واضحاً في أنّ أحد أسباب موقفه مردّه، إيمانيّاً، إلى الحديث النبوي المشهور: «مَن سمع رجلاً يُنادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم». في هذه الخطبة كان يوضح لـ«المصدومين» منطلقات مواقفه إزاء تلك الأزمة. يذهب أعمق في إيضاح معنى الحديث، إذ يلفت إلى أن النبي لم يقل مُسلماً، بل قال رجلاً، بمعنى أن «إغاثة الملهوف» واجبة وإن كان المظلوم ليس مُسلماً. طبعاً، لم يغب عنه تحديد «الاستطاعة». كلّ بحسب استطاعته. تأتي «كلمة الحق» هنا في أدنى مراتب القدرة، وهي، عند حزب قوي مقتدر، يُمكنه فعل الكثير، يكون الاكتفاء بالكلمة تضحية هائلة منه. لكن أن يُطلب ما وراء ذلك، إلى حدّ الصمت، فهذه استحالة وجوديّة عنده. بالمناسبة، مَن ينأى بنفسه تماماً في لبنان عن الخارج؟ هذه أيضاً مِن الاستحالات اللبنانيّة، وإن تباينت في جهات الأرض، في الطائفة مرّة وفي «المعيشة» مرّات أخرى. هناك مَن يتكسّب على مآسي الآخرين، وهناك مَن لا يُريد هذا «الكسب الحرام»… وهذا خلاف أبدي.