هيام القصيفي – الأخبار
بين إعلان انكسار تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، ومحاربة لبنان التنظيم وكسره، ثمة تحديات كبيرة تكمن في الإجابة عن أسئلة أساسية: ماذا بعد هذه المعارك في لبنان والمنطقة؟ هل انتهى فعلاً هذا التنظيم وانتهت الأيديولوجيا؟ وهل يمكن أن يختفي آلاف المسلحين، فجأة؟ وإلى أين تسربوا؟ أين موقع لبنان من تداعيات انكسار «داعش»؟
حين يعلن العراق وسوريا انتهاء «تنظيم داعش» والسيطرة عليه وحصره في بقع جغرافية ضيقة، وحين يصمت التنظيم إعلامياً، فهل هذا يعني أن منطقة الشرق الأوسط تحررت نهائياً من هذا التنظيم، وأن هذا الجسم الإرهابي تبخر فجأة ولم يعد له من أثر يذكر، وأين ذهب آلاف المسلحين الذين ينتمون إليه وحاربوا فيه منذ أن سطع نجمه بين 2012 و2013.
السؤال مطروح عالمياً وإقليمياً، كيف يمكن قراءة ما بعد انحسار جغرافية «داعش»؟ كيف يمكن مَن بنى إمبراطورية، أو إمارة أو خلافة مبنية على القتل والدم والذبح والترويج الإعلامي وسلاح النفط والمال، معطوفة كلها على عقيدة ومبادئ وفكر عبّرت عنه مجلته «دابق» وعلّم أساليب القتل دهساً والضرب بالساطور، والتحرك في أسلوب الذئاب المنفردة وتفجير سيارات، أن يتراجع ويختفي ظله؟ هل انتهى عصر التنظيمات الأصولية في منطقة عرفت صعود تنظيم القاعدة ونموه، ومن ثم جبهات إسلامية متفرعة منه، شهدنا في لبنان وجوهاً عدة تحت تسميات مختلفة.
لا يمكن القول إن مشاكل الشرق الأوسط انتهت بانتهاء داعش، وهي التي كانت قبله وستبقى بعده، بعدما أفرزت محاربة داعش معطيات جديدة على الأرض، مصير القضية الكردية منذ سقوط الرئيس العراقي صدام حسين، وصولاً إلى الاستفتاء الأخير، ولا سيما أن الأكراد ساهموا في قتال هذا التنظيم ومحاربته في سوريا والعراق. دور القوى السنية في الحكم العراقي ما بعد الانتهاء من داعش، مصير المسيحيين في العراق وسوريا والأقليات فيها كما الأيزيدية، وقد دفعوا ثمناً غالياً من قتل وخطف وتهجير على يد داعش، فهل تنصفهم الأنظمة القائمة وتجعلهم يطمئنون مجدداً إلى العودة إلى بلاد الشام والعراق؟
ثمة تحديات كثيرة على أرض سوريا والعراق، وبدأ البحث فيها سوريا في مفاوضات سوتشي وجنيف واللقاءات الإقليمية والدولية: مصير الفصائل السورية المعارضة، الخريطة الجغرافية التي تغيرت، تأثيرات الوجود الإيراني والروسي في المنطقة وسط مخاوف أميركية من أن يكون الفريقان هما اللذين خرجا الأكثر ربحاً في معركة إنهاء داعش. هل يبقى الأميركيون في سوريا بعد تأكيدات البنتاغون، رغم التباين حول أعدادهم الحقيقية؟ إضافة إلى عنوانين بارزين، حجم الدمار الهائل لمن يعرف سوريا جيداً، وعملية الإعمار المكلفة ومصير النازحين السوريين. لكن كل هذا في كفة، وفي كفة أخرى مصير هذه الإيديولوجيا التي تحكمت بمصير آلاف الشبان والشابات، وعقولهم، وجعلت أبناء المنطقة ومن ولد في أوروبا، يحمل كفنه ويأتي إلى سوريا والعراق ولبنان ليحارب ويفجر نفسه ويقتل ويحرق ويدرب أطفالاً على أساليب الذبح والقتل.
مثلما صعدت القاعدة، وبعدها «داعش»، يمكن مراقبة التحولات التي قد تأتي بتنظيمات تحت تسميات جديدة، في المنطقة وفي العالم، ولا سيما في أوروبا، حيث يتضاعف خطر العائدين من ساحات القتال ويحملون جنسيات أوروبية، أو الذين يجندون حيث هم. فانتهاء داعش لا يعني أن عناصره انقلبوا على فكره وأعلنوا التوبة. من تابع مجريات المحاكمات في لبنان يعرف عينة من هذا المسار، ويعرف كذلك هذا التدرج من فتح الإسلام إلى النصرة وداعش وغيرها من الجماعات التي سعت إلى تكريس نهج التشدد والإرهاب في بعض المناطق.
لبنان «كسر» داعش: البؤر الأمنية تحت المراقبة
لم يكن لبنان بعيداً عن محاولات الحركات الأصولية والمتطرفة لتحويله ساحة جهاد وتطويع وتدريب وتنفيذ عمليات إرهابية وسعي مستمر إلى إقامة إمارة إسلامية حيث تتوافر الظروف الملائمة. قبل تنظيم الدولة الإسلامية وانتشارها، كانت معركة الضنية عام 2000 ومعركة نهر البارد عام 2007 كمفترق أساسي في المواجهة والسعي إلى إقامة دولة إسلامية في طرابلس والقلمون.
كانت مواجهة هذه التنظيمات حكراً في كثير من الأحيان على فريق سياسي واحد، وكانت بعض القوى السياسية تصرف في بعض الأحيان النظر عن بعض التصرفات، أو تبرر التوجهات الأصولية تحت خانة الفقر والحرمان. مع دخول تنظيم داعش وتصدره المشهد الإرهابي المتطرف، وقبله النصرة والقاعدة، واجه لبنان خطر هذه التنظيمات على أكثر من مستوى: معارك ضد الجيش في مناطق عدة، جرود عرسال وخطف العسكريين واستشهاد عدد منهم، معارك عرسال وعبرا وأخيراً معركة فجر الجرود عام 2017، وتفجيرات انتحارية في الضاحية الجنوبية والقاع، ومحاولات تفجير وتشكيل خلايا إرهابية وتمويلها وتهريب مسلحين وأسلحة.
تضافرت جهود الجيش اللبناني عسكرياً وأمنياً عبر مديرية المخابرات، وفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، ومن ثم الأمن العام في تحويل مواجهة التنظيمات الأصولية هدفاً أساسيا في العمل الأمني بالتعاون مع أجهزة استخبارات غربية ساهمت في تقديم معلومات مهمة ومساعدات عينية لملاحقة الشبكات الإرهابية، على مدى السنوات الماضية.
اليوم بعد المتغيرات في سوريا والعراق، ومعركة فجر الجرود، ما هو واقع التنظيمات الإرهابية ــ الأصولية، وما هي التحديات الاساسية التي تواجه القوى الأمنية، وأين تقع مكامن الخطر؟
يقول مصدر أمني بارز لـ«الأخبار» إن لبنان «بفضل جهود الأجهزة الأمنية اللبنانية تمكن من كسر شوكة التنظيمات الإرهابية بنسبة كبيرة جداً، بفعل المواجهات والتوقيفات والمداهمات والعمليات المتواصلة في المراقبة والمتابعة وجمع المعلومات، وعدم التهاون في أي ملف له صلة بهذه التنظيمات وملاحقة المتورطين معها، أو المتعاطفين معها».
هناك ثقة تامة بأن نسبة النصر على هذه التنظيمات باتت عالية جداً، وخصوصاً بعد المعركة الأخيرة في جرود القاع وراس بعلبك، واستمرار كافة الأجهزة الأمنية في توقيف المشتبه بهم. لكن في موازاة هذه الثقة، لا يزال الجيش اللبناني على تأهبه، كما الأجهزة الأمنية الأخرى، لأن الخطر لا يزال موجوداً، ولو بنسبة أقل بكثير من السابق.
هناك بؤر أمنية لا يزال الجيش يعمل على مراقبتها، ولكل منها ثُغَر يمكن أن ينفذ منها أي عناصر إرهابية، ولا سيما بعد تطورات سوريا والعراق. فمن المنطقي أن انكسار داعش وانحسار البقعة الجغرافية التي كان يتمدد فيها، فرضا أمراً واقعاً على المسلحين التابعين له، فإلى أين يمكن أن يذهب هؤلاء بعد الحصار والضربات التي وجهت إليهم جواً وبراً. هناك خيارات عدة مطروحة: التسلل إلى الأردن وتركيا، وإلى لبنان، الذوبان في مجتمعات النازحين في هذه البلاد، أو تأمين وسائل انتقال إلى أوروبا.
في لبنان يبقى الخطر من التسلل عبر الحدود الشمالية والشمالية الشرقية. ومشكلة الحدود وضبطها مئة في المئة، ليست أمراً سهلاً، ولا تزال مشكلة دولية عصية على أكثر الدول امتلاكاً للتقنيات وللعناصر البشرية، كما يحصل بين الولايات المتحدة والمكسيك في موضوع الهجرة غير الشرعية، وما حصل في دول أوروبا لمنع تدفق اللاجئين.
تشكل المعابر غير الشرعية منفذاً أساسياً للمسلحين، ولا سيما في جهة عكار، كما من جهة جرود القاع ومشاريعها. خصوصاً أن الحدود غير الشرعية من الجهة السورية ليست مضبوطة أيضاً في شكل كامل. من هنا تشكل أربع بقع أساسية في لبنان نقاط متابعة دائمة: عرسال وجرودها، ولا سيما مخيمات النازحين، عكار وطرابلس، مخيم شاتيلا وصبرا، ومخيم عين الحلوة. ولكل من هذه البقع التحديات الأمنية الخاصة بها.
في عرسال ومحيطها يوجد ما يفوق مئة مخيم للنازحين السوريين، والخطر قائم في احتمال تواصل نازحين مع أفراد المجموعات الإرهابية التي تركت لبنان، ولا تزال هذه المنطقة تحت مراقبة دقيقة وعمليات دهم مستمرة. في حين أن منطقة البقاع الأوسط، ورغم خضوعها للمراقبة، إلا أن وجود الجيش السوري المتشدد في المراقبة من الجهة السورية يمنع إلى حدٍّ كبير أي تسلل أو تهريب في هذه المنطقة.
في وادي خالد ــ عكار يكمن الخطر الأساسي، لكونه معبر تهريب للمقاتلين والسلاح، ويلعب دوراً أساسياً في عمليات التسلل والتهريب التي تقوم بها عصابات محلية وسورية، إضافة إلى أن الطبيعة الجغرافية تسمح بتداخل المناطق بين لبنان وسوريا، ما يسهِّل عمليات الانتقال إلى لبنان، والاختباء في تجمعات النازحين حيث يتوافر ملاذ آمن للإيواء، ويشكل بيئة حاضنة لتجنيد انتحاريين. في طرابلس لا يزال الخطر من هذه الجماعات موجوداً، وتتشدد القوى الأمنية في مراقبة التجمعات والمناطق التي يمكن أن تكون مصدر خطر في المجال الإرهابي، ولا سيما لجهة الخلايا النائمة المرتبطة بشادي المولوي، ما يهدد المدينة وضواحيها.
مشكلة صبرا وشاتيلا تكمن في أنهما مفتوحان على مدينة بيروت، وعلى الضاحية، وبذلك لا يمكن حصر حركة الدخول والخروج منهما وإليهما، فضلاً عن حركة شعبية متنامية في المنطقة تسمح بتسلل وإيواء مسلحين من التنظيمات الإرهابية. إلا أن القوى الأمنية تتعامل مع مخيم شاتيلا وأحياء صبرا من الناحية الأمنية ــ الاستخبارية من دون انقطاع، وهناك تعاون بين القوى الأمنية واللجان الفلسطينية لضبط أي محاولة لتحويل المنطقة إلى مستقر للمجموعات الإرهابية.
المشكلة الأكبر بطبيعة الحال هي في مخيم عين الحلوة. الأزمة فيه مزدوجة، مخيم بمساحة كيلومتر مربع بكثافة سكانية عالية يضم نحو 80 ألف نسمة، لا يمكن ضبط حركتهم اليومية في شكل كامل، بين طلاب المدارس والعمال والتجار والباعة والسكان العاديين. لذا، يُعمَل حالياً على السور الذي يمكن أن يساعد في ضبط حركة الانتقال مع الجوار، لأن الحاجز الأمني وحده لا يكفي لضبط عمليات التهريب بكل أنواعها. وخطورة ما يجري في عين الحلوة ، أنه يحوي «معملاً» لإصدار مستندات مزورة وبكل أنواعها. خصوصاً أن البطاقة الفلسطينية الكرتونية التي لا تزال تستخدم منذ سنوات طويلة من دون أن تعمل الأجهزة المختصة على تغييرها منذ صدورها، سهلة التزوير. فهل يعقل أن تضبط وقوعات اللبنانيين وسجلاتهم، فيما لا يزال اللاجئون يحملون بطاقة كرتونية يمكن أن تزور ويستخدمها أي شخص فلسطيني أو غير فلسطيني؟ علماً أن مشروع إعداد بطاقات بيومترية لهم يحتاج إلى نحو سنتين للانتهاء منه.
بحسب المعلومات الأمنية، يسيطر على خمسين في المئة من عين الحلوة الأمن الوطني الفلسطيني بقيادة اللواء صبحي أبو عرب ومجموعة منير المقدح ومجموعة اللينو. فيما تسيطر على خمسين في المئة القوى الإسلامية: عصبة الأنصار، الحركة الإسلامية المجاهدة، داعش، النصرة، فتح الإسلام، مجموعة بلال بدر وبلال عرقوب، الشباب المسلم، جند الشام، كتائب عبد الله عزام، أنصار أحمد الأسير.
حالياً لا رصد لجبهات إرهابية جديدة بعد انتهاء من معركة الجرود وتحريرها، لكن هذا لا يعني أن الخلايا النائمة لن تنشأ مجدداً تحت تسميات أخرى أو تعيد ترتيب أوضاعها. وهنا أهمية المراقبة والمتابعة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية التي تمكنت من «كسر شوكة» هذه التنظيمات على اختلافها ومنع إمدادها باحتياجاتها اللوجيستية لتنفيذ عملياتها. علماً أن هذه التنظيمات حتى الآن اعتمدت أساليب باتت معروفة لجهة التفجيرات الانتحارية والأحزمة الناسفة، ولم تعتمد الأسلوب الذي اعتمدته في أوروبا، من دون انتفاء هذا الخطر واحتمال بقائه.