ابراهيم الأمين – الأخبار
ما من أحد واهم بأن القرار الأميركي الأخير جاء منعزلاً عمّا سبقه وسيلحقه. الولايات المتحدة ليست في حاجة إلى خطوة يتيمة من هذا النوع. ومن اتخذ القرار يعرف أنه تمهيد لما هو أكبر، وأكثر خطورة. ولا حاجة، هنا، لانتظار ما يخبرنا به العدو عن تنسيق وتفاهم مسبق مع دول عربية أهمها السعودية والإمارات ومصر والأردن.
وما بات معروفاً يؤكد أن واشنطن وتل أبيب قطعتا أشواطاً في المحادثات مع دول عربية تتقدمها السعودية، للانتقال نحو فصل جديد من محاولة تصفية القضية الفلسطينية.
الأعداء يقومون بما يجب عليهم لتحقيق مصالحهم. ولهم ما عندهم من تقدير للواقع العربي ولردود الفعل على ما ينوون القيام به. وهم، بالتأكيد، يتوقعون احتجاجاً ينتهي ببعض التظاهرات والصراخ ليس أكثر. وهم لن يترددوا في المساعدة، إن تطلب الأمر، لترك الغاضبين ينفّسون غضبهم ببعض تظاهرات وبيانات إدانة. لكنهم يظهرون استعداداً لمواجهة ما هو أكبر، في ما لو تدحرجت ردود الفعل نحو مواجهات أوسع. ووسيلتهم الوحيدة في المواجهة هي القمع والقتل وتفعيل الفتنة.
لذلك يقع التحدي، كما في كل مرة، على عاتق من ينادي بالصمود والمقاومة لمنع الأعداء من تحقيق أهدافهم. وهو التحدي الذي لم يعد ممكناً تركه على عاتق الشعب الفلسطيني وحده. وسيكون خطأ كبيراً الركون إلى نظرية أنه لا يجب أن نكون ملكيين أكثر من أصحاب الأرض. فوجود إسرائيل واستمرار توسعها، وتضخم الهيمنة الأميركية في بلادنا، ليست أموراً تعني الفلسطينيين وحدهم. وهي لم تكن كذلك من الأصل. بل إن الخطر اليوم بات يتربّص ليس بمن يعيشون في فلسطين وحولها فحسب، بل بكل الذين ينطقون بلغة فلسطين.
هذا يعني، ببساطة، أنه آن الأوان لتغيير جذري في قواعد اللعبة، وهو أمر يفترض:
أولاً، التخلص، لمرة أخيرة ونهائية، من مقولة القرار الفلسطيني المستقل. وعدم القبول، تحت أي ظرف، بأن مستقبل فلسطين يقرره شعبها الفلسطيني. وإذا كان البعض سينظر إلى هذا العنوان على أنه اعتداء على سيادته، فليبلّط البحر ليل نهار.
ثانياً، أن التدخل المطلوب، في صياغة الموقف والخطوات الواجب اتباعها لمواجهة المستجد، يعني ببساطة المشاركة في التقييم والتقدير، وبالتالي مناقشة الفلسطينيين في الأولويات المنطقية، والمتصلة ليس فقط بقدراتهم، بل بما يمكن المحيط أن يقدمه لهم اليوم، أو في فترة لاحقة.
ثالثاً، إن الانتصارات النوعية التي حققها محور المقاومة في لبنان وسوريا والعراق تفرض على القائمين على هذا المحور المبادرة، سريعاً، بإعادة الاعتبار إلى عنوان فلسطين، كأساس لأي سياسات خارجية وتحالفات مع الإقليم والعالم. وهو استحقاق ماثل اليوم أمام المسؤولين العراقيين أولاً، وأمام فئات سورية ثانياً، وأمام انعزالية لبنانية لم تتعظ بعد من كل الدروس. وهو استحقاق يفيد بأن «بلدي أولاً» ليس سوى حيلة اخترعها من يريد الاستسلام لما قررته أميركا والغرب في بلادنا.
رابعاً، أن البحث في طريقة التصدي للاحتلال وللمستعمر الأميركي لم يعد يقتصر على مقارعة تقليدية مع هؤلاء. الأعداء اليوم في متناول اليد، من كيان وجيش الاحتلال، إلى قواعد جيوش أميركا وسفاراتها في منطقتنا. لكن الأمر يتعلق، هذه المرة، بخطوات عملية من العملاء المتواطئين مع الاحتلال وأميركا، من بقايا السلطة الفلسطينية التي لا نعرف متى تدرك أن مسيرتها لا تنتهي إلا بموت ذليل، مروراً بحكومات الأردن ومصر والسعودية والإمارات العربية والبحرين، إذ لم يعد يخجل هؤلاء من تماهيهم مع المشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي.
خامساً، أن المواجهة الشاملة لا تعني المعركة الواحدة أو المتماثلة. لكنها تعني أنه لا يمكن التعامل مع حلقة دون بقية حلقات سلسلة الشر التي يحاولون خنقنا بها. وهي مواجهة تحتاج إلى عقل مبدع، وأعصاب باردة، وإلى قلب مشتعل بالحقد على القذارة المنتشرة من حولنا على هيئة بشر. وهذا يفرض عدم الدخول في مزيد من المناقشات التي تنتهي، فقط، إلى إعياء الناس ورفع نسبة الإحباط والتراجع عن الفعل المطلوب. أكثر من ذلك، ما يحصل لم يعد يوجب على قوى المقاومة الحقيقية الوقوف على خاطر هؤلاء، حكاماً كانوا أو نخباً أو حتى كتلاً شعبية، لأن ما يريدونه جرّبناه على مدى أكثر من سبعين عاماً، وليس لنتيجته سوى اسم واحد: الموت قهراً!
سادساً، قد يكون من حسنات القرار الأميركي فتح الأبواب التي أُوصدت بفعل تداعيات ما شهده العالم العربي خلال السنوات السبع الماضية، سواء لجهة دفع الذين ضُللوا إلى مراجعة تعيدهم إلى موقع المواجهة الأولى والوحيدة مع العدو، أو لجهة دفع القوى التي تضررت من ضلال هؤلاء إلى مراجعة ترتكز على أن مهمة الأخ الصالح مساعدة الأخ الضال على العودة إلى صوابه. وهذا يفرض على إيران أن تلعب دوراً كبيراً، خصوصاً في العراق، ومن ثم في سوريا. إذ لا يمكن أن يكون أمراً عادياً ألّا يخرج أبناء الشعبين السوري والعراقي في تظاهرات احتجاج كبرى على ما يجري اليوم، بحجة الانشغال بالأزمات الداخلية، أو بذريعة ترك من تركونا ليتدبّروا أمورهم. وبين أيدينا مثال ساطع، هو ما يحصل في اليمن، حيث الحرب الكونية القائمة، وحيث القصف والقتل والجوع والمرض، لم تمنع أبناء تيار المقاومة هناك من الخروج ورفع الصوت ضد قهر فلسطين.
في واقعنا، اليوم، من يراهن على تعب الفلسطينيين، وعلى عجزهم عن ابتداع وسائل مقاومة جديدة. وستظهر الأيام لمن هو واهم أن أبناء القدس والضفة وغزة وبقية فلسطين التاريخية، ليسوا في انتظار إلا من يؤمن بأن الحل يكون، فقط، بإزالة إسرائيل من الوجود!