رؤوف قبيسيدعاني أصدقاء إلى غداء في مطعم جميل بين جبال خضراء، في قرية الفرزل الواقعة في منطقة البقاع الأوسط. لم أكن قد سمعت باسم هذه القرية اللبنانية الساحرة من قبل، لكني قدّرت أنه لا بد أن تكون لها صلة بعائلة الفرزلي، التي منها صديقي الكاتب، المقيم في لندن، سليمان الفرزلي. صدق تقديري عندما فسر لي أحد سكان القرية هذا التشابه، وأكد لي أن "الفرازلة" جاؤوا في البدء من الفرزل، قبل أن تأخذهم طرق الزراعة الجديدة إلى قرى بقاعية أخرى عند تخوم جبل الشيخ.شاءت المصادفة وأنا إلى مائدة الغداء أن ألتقي أحمد غندور، أحد العاملين في دار الإذاعة اللبنانية، فأخبرته أن بعض من علّموني صغيراً عملوا في الإذاعة اللبنانية، منهم الراحلان طاهر الحلبي وشفيق جدايل. ثم فهمت منه أنه جايل جدايل فترة من الزمن وتدرب عليه، وأن ندوة تكريمية أقيمت للمذيع الراحل في بيروت، في 12 أيار الماضي.كنت في بيروت يوم الندوة فلم أعلم بها، ولو عرفت بموعدها لكنت حضرتها بالتأكيد. أقول بالتأكيد لأني كنت واحداً من مئات الألوف الذين استمعوا إلى شفيق جدايل وأحبّوه. عرفته معلّماً قبل أن أسمعه مذيعاً، وأوافق من غير تردد على قول الذين سمّوه شيخ المذيعين العرب وعميدهم.لست من هواة التقعر في اللغة، خصوصاً في لغة الصحافة، لكن أحب أن أقول عن معلّمي الراحل إنه كان مذيعاً "لا يشقّ له غبار"، جملة سمعتها منه للمرة الأولى، وتعني الشخص المتفرد، أو الذي "لا يفري فريه أحد"، كما تقول العرب في الأدب القديم.كان شفيق جدايل متمكناً من العربية إلى حد أنه لم يكن يخطىء في كلمة واحدة، وكان في صوته غنّة حلوة ميّزته عن المذيعين العرب كافة. كان إذا أذاع كلمة أو كلمتين عرف الناس أن صاحب الصوت هو شفيق جدايل. لم يكن مذيعاً موهوباً فحسب، كان أيضاَ شاعراً وأديباً. كتب قصائد كثيرة، منها "تعال تعال كفاك دلال" التي غنّتها فيروز، وهي في السابعة عشرة من عمرها. هذه الأغنية من لون خاص، ومن أجمل أغاني فيروز القديمة، التي لحّنها الأخوان رحباني.كان شفيق جدايل معلّمي في مدرستي المقاصدية الأولى، التي في شارع ميشال شيحا بمنطقة القنطاري، على بعد خطوات من منزل عامر، كان يسكنه رئيس وزراء لبنان الراحل تقي الدين الصلح.لم أكن تلميذاً مجتهداً في تلك المدرسة لطبع فيَّ لا يزال متأصلا، يجعلني أكره أن أُكره على فعل شيء، وخصوصاً إذا كان فروضاً رتيبة لا أحبها، لذلك ضقت ذرعاً بالمدارس، وقاعات الدروس، التي كنت أحسبها كالسجن، ما جعلني مع الزمن أكره الروايات الطويلة، والأغاني الطويلة، والنكات الطويلة، والمحاضرات التي فيها كثير من الكلام وقليل من الفكر!لم تكن مدرستي الابتدائية كلها سجناً. كنت أحب دروس التاريخ التي كان يلقيها علينا أستاذنا طاهر الحلبي، كما كنت أحب معلّمي الشيخ ابرهيم هنداوي وأسلوبه الإنساني السمح في تدريس مادة الدين. أما أحب الدروس إليَّ وآثرها عندي، فكانت الدروس العربية التي كان يلقيها علينا أستاذنا الجليل شفيق جدايل.لا تزال نغمة صوته الشجية ترنّ في أذني وأنا أسمعه يقرأ علينا قصة حاتم الطائي، وقصيدة خليل مطران الخالدة "مصرع بزرجمهر" التي مطلعها:يا يوم قتل بزرجمهر وقد أتوا/ فيه يلبّون النداء عجالامتألبين ليشهدوا موت الذي/ أحيا البلاد عدالة ونوالا كنت أعرف أن لشفيق جدايل ابنة اسمها رلى، هي الآن قاضية مشهورة، وتشغل منصب رئيسة محكمة جنايات لبنان الجنوبي. كان معلّمنا شفيق، بين حين وآخر، يصطحب رلى إلى "صفّنا" الذي كله من الصبيان، فكنا نتهامس حولها بكلام حب بريء، على رغم أن عمر أكبرنا لم يكن يزيد على الثالثة عشرة! لست أدري ما الذي كان يجعل الأستاذ شفيق يطلب إلى ابنته أن تجلس على المقعد المجاور لمقعدي، أم هل يا ترى كان ذلك بطلب منها؟!سألتُ أحمد غندور، عن رلى جدايل، فأعطاني رقم هاتفها المحمول. حين اتصلتُ بها اكتشفتُ أنها، كما كانت جارتي في قاعة الدرس، هي أيضاً جارتي في قريطم. تواعدنا والتقيتُها في البيت الذي عاش فيه والدها الراحل، وتذكّرنا ذلك الزمن الأخضر الجميل في الستينات، يوم كانت بيروت زهرة المدن. عرّفتني إلى والدتها السيدة كوثر، ثم عرفتُ أنها لم تكن وحيدة أبيها كما كنت أظن، وأن لها أخوين: أسامة، يعمل أستاذاً للعلوم الميكانيكية والطيران في جامعة البلمند، وبلال، يشغل منصب مدير في إحدى الشركات في الإمارات.ولد شفيق جدايل في بيروت مع ولادة لبنان الكبير عام 1920. درس في المدرسة الأزهرية، وفي مدارس المقاصد. في العام 1946، انتسب إلى الجامعة اليسوعية ونال دبلوماً من معهد الدراسات الشرقية، ووضع مؤلفاً عنوانه "المسرح العربي في مئة عام".بدأ يعلّم العربية في المقاصد وهو في التاسعة عشرة، وكتب مجموعة من النصوص المسرحية، منها "ملاك الرحمة" و"الساحر المتنكر" و"إسلام عمر". في العام 1945 التحق بإذاعة لبنان، وكان اسمها "دار الإذاعة اللبنانية من بيروت"، وذلك بعد نجاحه في مباراة أشرفت عليها لجنة من أعضائها عمر فاخوري، وعمر الزعني، وميشال خياط، والياس أبو شبكة.وضع مجموعة من البرامج، وعدداً من التمثيليات الإذاعية، وكان الرائد في النقل الإذاعي المباشر، كما نظم عدداً من الأناشيد التي لحنها "الأخوان فليفل".في العام 1945 منحته الدولة اللبنانية "وسام المعارف"، وفي يوم الأربعاء 6 تشرين الثاني 1985 صدر مرسوم بمنحه "وسام الأرز الوطني" من رتبة ضابط.لم يعلّق الوسام الرفيع على صدر المذيع القدير لأن نوبة قلبية حادة ألمّت به في 22 من الشهر نفسه، وأخفت صوته داخل جثمانه الذي انزرع في مدافن الباشورة "بخوراً يتضوع تجربة وطنية رائعة في حب لبنان، وعبق لغة عربية صافية لذة للسامعين، ومثال أداء وجمال إنشاء هما قدوة للمريدين". |