محمد بدرى
يعدّ على سبيل الإنجاز في لبنان أن تعود إلى بيتك أخر النهار سالما, فقد تصادف في طريقك موتاً طائشاً برصاص حزن أو ابتهاج, أو قد تصادف سائقاً متهوّراً يعتبر أن الله قد سخّر الطريق له وحده فتموت لاختيارك هذه الطريق في لحظة الامتلاك تلك. هنا, في هذه البقعة من الكوكب قد تموت لأسباب تافهة, تافهة جدا, كخلاف على أفضليّة مرور, أو موقف سيارة!
على هذه الجغرافيا الصغيرة على طموحات أبنائها، “الحريّة الكاذبة” إذا ما كُتِبَ لكَ البقاء, على سبيل الصدفة فإنك لن تسلم من القلق
القلق على البقاء مجموعةً تجمعها خصائص ثقافيّة- قيميّة مشتركة, القلق من المجهول, القلق الوظيفيّ, القلق على الصحة ومستقبل الأولاد ومستقبل البلد, قلق انقطاع الكهرباء ,زحمة السير, تلوث الهواء والغذاء. هذا القلق الذي نبتلعه والذي يصبح محرِّكاً ومنطلقاً لأغلب تصرفاتنا وتعبيراتنا هو أساس أغلب أمراضنا النفسية أفراداً ومجموعاتٍ, قد يتطوّر ليصبح “مأزماً نفسياً عامّاً” يتشارك سماته اللبنانيّون ككلّ ويتمظهر في ردّات الفعل العنيفة التي يتبناها المواطنون, كما يتمظهر في ارتفاع نسبة الجريمة بسبب عدم قدرة الأفراد على القيام بالمزيد من التسويات مع الواقع المأزوم فيجدون أنفسهم أمام ضغوطات اجتماعية مرتفعة لا يمكن التنفيس عنها إلا بردّات فعلٍ توازيها من حيث القوة “العنف”! هنا أمام هذه الضغوط تتساوى المعايير في نظر الأفراد فلا يعد هناك فرق بين السجن والحرية أو بين الحياة والموت لا بل يشكّل الموت السريع هروباً من موت بطيء على شاكلة القلق!
دعك من هذه المقدمة الرتيبة, ما الحل؟!
أغمضْ عينيك قليلاً وتخيّل نفسك تعيش على جزيرة وحدك, بدون ضوابط وبدون رقيب, افعل ما تشاء, ساعة تشاء! قد تكون هذه هي “الجنة” فلا سدود أمام رغباتك ونزواتك ولا حدود لخيالك أو تخيّلاتك! لا سلطة للأنا الأعلى, هذه السلطة التي تفرضها عليك المجموعة التي تعيش معها. ولكن لسوء الحظ, وبسبب عدم قدرتي أو قدرتك على فعل ذلك في هذه اللحظة فنحن بحاجة للتحرّر من نير سلطة الأنا الأعلى ولو مؤقتاً للتنفيس عن هذا القلق الذي يأكل أجهزتنا العصبية في بلد يدفعك لحدود تحمّلك الأقصى, بسبب عجزنا هذا, نحن بحاجة “لتسوية” مؤقتة!
انتبه, أنظر حولك الآن! قد تصادف في هذه اللحظة موتاً طائشاً! هل أنت قلِق؟!
تشكّل الأعياد فرصة ذهبية للتخلص من “الرقابة الاجتماعية” كأن تسمح لأولادك ليلة العيد بالسهر حتى ساعة متأخرة على غير عادة, أو أن تأكل وجبة دسمة من الطبق المفضّل لديك بالرغم من تحذيرات الطبيب. ليوم واحد فقط! أو أن تسمح لأولادك بالنوم خارج المنزل استثناءً بمناسبة العيد. هذا التحرر من الرقابة ولو بشكل مؤقّت يساعد في التنفيس عن الكثير من القلق بالرغم من عدم زوال أسبابه إلا أنه يعطي دفعاً أيجابياً ويشكل محطةً سنوية رمزية لنوهم أنفسنا بالقدرة على الهروب من هذه القيود. لهذا السبب ابتكر الإنسان “الإحتفال”.
في ضوء كل ما تقدم هناك ثقافة تحاول تعويم نفسها اليوم! هذه الثقافة تقول “إيّاكم والاحتفال” هذه بدع لا دخل لنا فيها!
هذه احتفالات للنصارى!
هذا اليوم عيد على فتوى المرجع الفلاني وغداً على فتوى مرجع آخر! حتى إنك قد تشعر بالإحراج لمعايدة صديقك اليوم, فقد يصادف أن أول أيام العيد عنده, يوم غد!
لقد فقدنا “نشوة الاحتفال” وتحوّلت أعيادنا إلى فرصة للمكتئبين “للتنكيد” على كل ما هو فرِح! ولاتهام كلّ محاولةٍ للفرح بأنها بدعة نختلف على مصدرها التاريخيّ وبالتالي نُشَيْطِنُها بحيث تتحوّل لحظة الفرح إلى شعور بالذنب والخوف من العقاب الإلهي! وللتذكير لم تكن هذه عاداتنا منذ حوالي الخمسة عشرة عاماً! لم تكن الأمور معقّدة على هذا النحو ولم يكن شعور الفرح مناسبة للشعور بالذنب وجلد الذات.
لقد تناسيت في مقدمتي إيراد مناسبةٍ أخرى للتحرر من نير الرقابة وسلطة الأنا الأعلى, إنها “الحرب”, نعم تشكّل الأعياد كما الحروب فرصة ذهبيّة للتخلص من ضوابط المجموعة, لذلك على “المكتئبين” الطارئين على بيئتنا أن ينتظروا الحروب من مجتمع يأكله القلق ولا يجد فرصة احتفاليّة للتنفيس عن هذا القلق!
قد تجد في “محاولة ” المقال هذه كثيراً من علامات التعجب! كذلك هذه الثقافة الطارئة على مجتمعنا, هذه الثقافة مستهجنة وتدعوا إلى عشرات الآلاف من إشارات التعجب!!!
