علي حيدر – الأخبار
ما زال التضارب والقلق هما السمة التي تهيمن على الساحة الإسرائيلية، بشكل خاص على مستوى المعلقين والخبراء، بين من يأملون ويسعون إلى تحوّل إعلان دونالد ترامب إلى أمر واقع، مع أقل خسائر سياسية وأمنية، ومن يقدّرون ويتخوّفون من استمرار وتصاعد الحراك الشعبي المقاوم للقرار الأميركي، وصولاً إلى خطر اندلاع انتفاضة شاملة.
ويُحذّر التيار الثاني من الوقوع في فخ إحصاء أعداد المتظاهرين هنا أو هناك، مشيرين إلى أنّ هناك ساحة أخرى أشدّ تأثيراً وتحريضاً تتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتبلور قرارات بعض شبان وشابات الشعب الفلسطيني بتنفيذ عمليات استشهادية ضد المستوطنين والجنود، بما يتوافر من إمكانات الطعن والدهس. ويتخوفون في تل أبيب من أن استمرار هذا المسار وتصاعده سيؤديان إلى تغذية الشارع الفلسطيني بعوامل التعبئة نحو انتفاضة شاملة.
بحكم الواقع الجغرافي والاستيطاني والأمني لكل من الضفة والقطاع، تتباين أساليب ومفاعيل الحراك الشعبي الفلسطيني المقاوم. في المقابل، تختلف استراتيجية جيش العدو في التعامل مع الساحتين، ولكن يجمعهما هدف مشترك يتمثّل في محاولة الحؤول دون تطور الأوضاع باتجاه انتفاضة شاملة، والعمل على تهدئة الشارع الفلسطيني وتطويعه للتكيّف والقبول بما فرضته الإدارة الأميركية، وفي الوقت نفسه، من دون أن يكون ذلك على حساب قوة الردع الإسرائيلية.
ما زالوا في تل أبيب يراهنون على أن تعمد أجهزة السلطة إلى لعب دور احتواء غضب الشارع الفلسطيني. وفي موازاة ذلك، يتبع جيش العدو أداءً عملانياً مدروساً بدقة، وينطوي على تعليمات تحدد حركة الجندي المقاتل على الأرض وكبسه على الزناد… وصولاً إلى قصف الطائرات الحربية وما بينهما من أدوات قمع وقتل. ويهدف هذا الأداء إلى محاولة عدم استفزاز الشارع الفلسطيني بما يؤدي إلى تصعيد غضبه وردود فعله. ويبدو أن هذا التوجه أتى في أعقاب تقدير موقف أجرته القيادتان السياسية والأمنية اللتان درستا خياراتهما ومخاطر المرحلة، وهو ما يتعارض مع ما لجأتا إليه مع بداية انتفاضة الأقصى عام 2000، حيث سقط في الأيام الأولى عدد كبير من الشهداء في حينه، وكان الهدف قمع الشعب الفلسطيني وردعه عن مواصلة انتفاضته، وهو ما ثبت خطأه، بل أسهم أيضاً في بلورة نتائج عكسية لما كان مخططاً.
لفهم أداء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ينبغي وضعه في إطار العقلية والأدبيات الإسرائيلية، وفي سياق ما تراه من خيارات متاحة أمامها في التعامل مع الواقع الفلسطيني. فما قد يعتبر تصعيداً وقمعاً بالأدبيات الفلسطينية والعربية – وهو كذلك في أبسط المعايير الإنسانية ــ قد يكون سقف الحد الأدنى في المفهوم الإسرائيلي. بل يروّج العدو له على أنه تعبير عن سياسة ضبط النفس، وتجسيد للمعايير الأخلاقية التي يتبعها الجيش في المواجهة، وصولاً إلى الطلب من الآخرين أن يتعاملوا مع نتائجه، رغم الأعداد الهائلة من الإصابات، ودائماً انطلاقاً من معاييره هو. وهذا ما يتجلى بشكل واضح إذا ما علمنا بسقوط أكثر من 1700 جريح فلسطيني في أقل من أسبوع، (و6 شهداء في قطاع غزة). ويعود ذلك إلى أنّ التعليمات الموجهة إلى الجنود حتى الآن، تشدّد على ضرورة عدم القتل في الضفة تفادياً لتأجيج الشارع الفلسطيني، على أمل أن يسهم ذلك في تراجع حدة الموقف الشعبي، وحصر المواجهات في نطاقها الزمني والمكاني.
من جملة ما تعكسه هذه التوجيهات، التي تهدف إلى «تنظيم» آلية قمع جيش العدو للتظاهرات الفلسطينية، إقرار صريح وقلق كبير من قبل أعلى الهرم القيادي الإسرائيلي من انفجار شعبي فلسطيني واسع، ويكشف عن إدراكهم العميق – رغم كل إيحاءاتهم وتقاريرهم الاعلامية التي تحاول إحباط الشارع الفلسطيني – لحقيقة ما يتحلى به الشعب الفلسطيني في الداخل من إرادة صلبة تُمكّنه من تحويل واقع الاحتلال إلى مأزق، حقيقي رغم محدودية الإمكانات، وصولاً إلى قلب طاولة تقديراتهم ورهاناتهم على رؤوسهم.
السيناريو الذي يبدّد الخطة الإسرائيلية، ويحضر بقوة على طاولة الأجهزة الاستخبارية والعسكرية، كما عكست ذلك تقارير إعلامية، هو تزايد «العمليات الفردية» ضد الجنود والمستوطنين، ونجاحها في إيقاع الخسائر البشرية في الطرف الإسرائيلي. خطورة هذا التكتيك في المقاومة تنبع من كونه قدر على إجهاض رهاناتهم ووضع كيان الاحتلال في موقع من يتلقّى الضغوط، وليس فقط من يمارس الضغوط ضد الشعب الفلسطيني، فضلاً عن دوره الاستنهاضي للشارع الفلسطيني. العامل الإضافي الذي يسهم في رفع القلق الإسرائيلي من هذا المسار، هو الإجماع القائم في الساحة الفلسطينية على رفض إعلان ترامب، واقتناع كافة الأحزاب والتيارات بضرورة مقاومته والحؤول دون تحوله إلى أمر واقع، كما يخطّطون في البيت الأبيض وتل أبيب.
في المقابل، يلاحظ أن هناك أداءً إسرائيلياً مختلفاً، في مواجهة قطاع غزة. ويبرز ذلك في القصف الاسرائيلي المدروس الذي يتعمد الاستهداف القاتل عبر سلاح الطيران والمدفعية. والمفهوم الذي يحكم أداء جيش العدو في مقابل القطاع، يتحرك بين حدّين؛ الأول، عدم التسبّب (حتى الآن) في تصعيد واسع على جبهة قطاع غزة… وفي الوقت نفسه، تعزيز قدرة الردع الإسرائيلية. وبرز ذلك من خلال الضربات التي وجّهها جيش العدو، والتي من الواضح أنها دون بعض السقوف التي رسمها في الأشهر الماضية، ولكنها أيضاً هدفت إلى توجيه رسالة مفادها أن إسرائيل مستعدة للذهاب بعيداً في اعتداءاتها في حال تم تجاوز بعض ما تراه خطوطاً حمراء. ضمن هذا الإطار، يأتي تهديد وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، بأنه «لن يكون هناك قواعد لعبة، بل في كل مرة سنرفع سقف الردود التي ستصبح أكثر قساوة وقوة». ومن العوامل التي تدفع وتُمكِّن العدو من تنفيذ هذا التكتيك، ورفع مستوى رسائل التهديد، تقديره أن فصائل المقاومة لا تريد ولا تسعى الى جولة مواجهة عسكرية شاملة مع القطاع، وهو ما يمنحه هامشاً أوسع في الاعتداء. ويفترض حتى الآن أنّ الإسرائيلي لا يريد، ابتداءً، فتح مواجهة واسعة مع قطاع غزة، خاصة في ضوء نتائج المواجهات السابقة التي تحولت إلى مادة سجال في الداخل الإسرائيلي وقدمت القيادة السياسية في موقع المتردد الذي يتهيّب اقتحام قطاع غزة، وقدمت الجيش في موقع العاجز عن ردع فصائل المقاومة وإخضاعها، فضلاً عن تدمير قدراتها. مع ذلك، يهدف كيان العدو إلى تجنّب هذا المسار، من موقع من يملي السقوف. لكنه يدرك في المقابل أن للمقاومة خطوطها الحمراء التي لن تسمح بتجاوزها، حتى لو استطاع أن يحدث اختراقاً هنا أو هناك.
مع ذلك، تبقى حقيقة يُفترض أن تكون حاضرة على طاولة القرار في تل أبيب، وهي أن الإجماع القائم بين كافة فصائل المقاومة، ومعهم حركة فتح، حول رفض إعلان ترامب، قد يسهم في تحويل أي اعتداء إسرائيلي واسع على القطاع إلى عامل تأجيج لشارع الضفة، خاصة أن العنوان الذي ستجري تحت سقفه المواجهة هو تحصين القدس ومواجهة قرار الإدارة الأميركية بشرعنة صهينة القدس اللذين تجمع كافة الفصائل عليهما.