«جعلَت إسرائيل عاصمتها في مدينة القدس – العاصمة التي أسّسها الشعب اليهودي في الأزمنة القديمة». يقولها رئيس الإمبراطوريّة الأميركيّة، في القرن الحادي والعشرين، ثمّ يصمت الغرب العلمي، جدّاً، على هرطقته هذه. صمت، على خيانته التاريخيّة، يبقى أهون مِن الصمت العلمي على الهرطقة الكبرى قبل سبعين عاماً: طرد شعب وإقامة دولة على أرضه، مع مجازر دمويّة، تنفيذاً لتعاليم وردت في كتاب ديني عتيق. هناك مَن نقدَ «تاريخيّة» الحدث، صحيح، لكن كأفراد، مِن مؤرّخين وأثريين وباحثين، بينما ظلّت «المؤسسة» في مكان آخر. عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، تحديداً، يتحوّل العقل الغربي، فجأة، إلى «السِّحر»… الذي تفاخر يوماً بأنّه «نزعه عن العالم» مع مَن سبق ماكس فيبر وتلاه.
قبل دونالد ترامب، يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنّ «القدس هي عاصمة الشعب اليهودي منذ 3000 عام». هذا «كفر» علمي صُراح، في علم التاريخ الحديث، إنّما، مع ذلك، تظلّ إسرائيل تُمدَح كدولة مِن أنجح «الديمقراطيّات» ومِن أكثرها «حداثة». هل كانت القدس، أورشليم، عاصمة لـ«الملك داوود»؟ داوود نفسه، أركيولوجيّاً، ليس موجوداً في التاريخ. سليمان ابنه كذلك، وبالتالي، هيكله الشهير لم يوجد. فليؤمن بذلك مَن يُريد أن يؤمن، لكن أن يُصبح ذلك «حقيقة تاريخيّة» علميّاً، فما الذي يبقى للعلم بعد ذلك؟!
أين داوود ومدينته؟
يكتب إسرائيل فينكلستاين، أستاذ علم الآثار في جامعة تل أبيب، أنّ «مدينة أورشليم (القدس) نُقّبَت مرّة بعد مرّة، مع التركيز في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بحثاً عن آثار المدينة (…) تحت إشراف يغال شيلوح مِن الجامعة العبريّة، في مدينة داوود، حيث اللب الحَضَري الأصلي لأورشليم. الأمر المفاجئ والمُدهش – كما أشار إليه عالم آثار جامعة تل أبيب ديفيد أوسّيشكين – أنّ العمل الميداني هناك، وفي الأجزاء الأخرى مِن أورشليم الكتاب المقدّس، أخفقت في تزويد دليل مهم على أنّ المدينة كانت آهلة بالسكّان في القرن العاشر قبل الميلاد. هناك فقدان لأيّ بناء معماري تذكاري، وليس هذا فحسب، بل وكذلك لم توجد آثار حتّى لأيّ قطع فخّارية بسيطة». لذا، بالنسبة إلى فينكلستاين، وهو إسرائيلي، فإنّ «أكثر التقييمات تفاؤلاً هو أنّها (المدينة) لم تكن في تلك الفترة أكثر مِن مجرّد قرية مُرتفعات نمطيّة صغيرة» (التوراة اليهوديّة مكشوفة على حقائقها، صفحة 178). هكذا، هذه القرية، بالتسامح مع كونها قرية أيضاً، هي التي يقال إنّها كانت مركزاً لإمبراطوريّة عظيمة تمتد مِن البحر جنوباً إلى سوريا شمالاً! بالمناسبة، فينكلستاين هذا، الذي وضع كتابه بالتعاون مع المؤرّخ الأميركي نيل سيلبرمان، لا يخفي نزعته الصهيونيّة، لكن يُحاول فصل آرائه الخاصّة عن بحثه العلمي. هذا ما صرّح به قبل نحو 8 سنوات في مقابلة مع «هيئة الإذاعة البريطانيّة». وفي المقابلة نفسها يقول: «أنا أرى النصوص التوراتيّة موضوعة مِن قبل أناس لديهم مشاكلهم وضغوط الحياة، إضافة إلى آلامهم وآمالهم، وهذا ما يساعدني على فهم العالم. فلو أنني أقبل التوراة على أنّها منزّلة مِن عند الله، فلا فائدة إذاً مِن البحث العلمي».
زيف الأثر التوراتي
ظلّ «علم الآثار التوراتي» (المدرسة التي زُخّمت أفكارها مع وليم أولبرايت في النصف الأول مِن القرن الماضي) هو المهيمن على المراحل التنقيبيّة السابقة، وفق مبدأ أنّ لدينا «حقيقة» نُريد أن نعثر على ما يؤكدها، عكس «المنطق العلمي» الحديث، الذي ينطلق مِن الصفر، ليثبت مِن خلال البحث ما يُمكن أن يثبت. في المحصلة، سقطت الرواية التوراتيّة أمام حفريّات المنقّبين وأدوات البحث الحديثة (وليس التأريخ باستخدام الكربون – 14 المُشع إلا أحدها). كان المؤرّخ كمال الصليبي أحد الذين تصدّوا لذاك «العلم التوراتي المزيّف». في كتابه «التوراة جاءت مِن جزيرة العرب» ينتقد، بصرف النظر عن دعواه، عدم نزاهة الباحثين الآتين لإثبات ثقافتهم التوراتيّة. يكتب: «هناك أحجار قديمة في كلّ ركن مِن أركان الشرق الأدنى، أحفر أنّى شئت وستجد بعضاً مِنها. لكن الحفر هو شيء، وما يفعله الباحث بنتائج الحفر هو شيء آخر، وهنا يكمن الفارق بين البحث الأثري العلمي وما يُسمّى بعلم الآثار التوراتي». مثال على ذلك، أن يعثر نلسون غلويك على مناجم للنحاس قرب إيلات الحديثة، إلى الغرب مِن مدينة العقبة، ويعثر على ختم نقشت عليه كلمة «ليتم» في الجوار، فيُسارع إلى الاستنتاج أنّ هذا الختم «لا بدّ أنّه كان يخصّ «يوثام» ملك يهوذا. لا بدّ! من أين يتحصّل هؤلاء على هذ القدر من الوقاحة؟ الجواب: تم ذلك مِن «الصمت» العالمي، العلمي تحديداً، على أن يفعل الإسرائيليون ما يُريدون. يجد «ليتم» بدل «لـ – يتم» (بلام مفصولة) ومع ذلك هو ملك يهوذا! يعثر على الختم قرب «وادي اليتم» التاريخي، ولكن لا، إنّه الملك اليهودي. وعلى فرض أنه اسم شخص، فهل كان ذاك الملك هو الوحيد الذي يحمله؟ نعم هو كذلك، وعلى العالم أن يصمت. وفعلاً، العالم يصمت! مثال آخر، عام 1880 يُعثَر على نقش صخري في سلوان، قرب القدس، يَشرح كيف جرى حفر قناة مائيّة هناك. يُصبح النقش، بفجور علمي، هو دليل أنّه «النفق الذي حُفر في عهد الملك حزقيا» (بحسب سفر الملوك – 20:20). يُعلّق الصليبي على هذه المسألة، موضحاً: «النقش لا يُشير إلى أيّ أسماء، سواء أسماء أشخاص أو أسماء أمكنة، ولذلك لا تجوز نسبته قطعاً إلى عهد حزقيا، ملك يهوذا، كما فعل الباحثون التوراتيّون زيفاً. يبدو أن هؤلاء الباحثين لم يأخذوا في اعتبارهم أنّ الأقنيّة المائيّة كانت تُحفر في كلّ الأزمنة، أينما كان، ومتى ظهرت الحاجة إليها. نقش سلوان لا يُشير حتّى إلى أن القدس الحاليّة هي فعلاً أورشليم التوراتيّة». وقس على ذلك أكثر ما عُثر عليه في فلسطين، في المراحل الماضية، مِن تعسّف وتأويل وتحميل الآثار ما لا تحتمل بدافع أيديولوجي مفضوح.
هراء يفوق «داعش»
تُريد «الثقافة التوراتيّة» القول إن «الشعب الإسرائيلي» كان ولم يكن هنالك سواه، كأنّهم هبطوا مِن كوكب آخر، رغم أنّ التوراة نفسها تتحدّث عن «اليبوسيين» الذين كانوا قبلهم في أورشليم (وأمّا اليبوسيّون الساكنون في أورشليم فيلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيّون مع بني يهوذا في أورشليم إلى يومنا هذا – يشوع 63:15). هناك آثار لبشر، ولأسلاف البشر، عُثِر عليها في فلسطين (تحديداً) والمنطقة عمرها بمئات آلاف السنين. وُجدت بقايا هياكل عظميّة لإنسان «نياندرتال» (الذي يُقال سبقنا وعاصرنا نحن الهومو سابيان) وقد عاش قبل 350 ألف عام. ثمّ يخرج مَن يُريد أن يتحدّث عن «عاصمة أزليّة للشعب اليهودي» في القدس، وعن دولة تُقام على طرد شعب مِن أرضه، وكلّ ذلك وفقاً لرواية كتاب ديني ينصّ على أنّ عمر الإنسان على الأرض لا يزيد على 6 آلاف عام! ثم يقر «العالم العلمي» لهذه الدعوة بالحقّ! حتّى فراس السواح، الباحث المعروف، في معرض ردوده على «منهجيّة» صليبي البحثيّة، لم تفته الإشارة إلى أنّه «غدا مِن نافلة القول اليوم التحدّث عن صحّة المرويّات التوراتيّة مِن الناحية التاريخيّة… إنّ ما أفاضته التنقيبات الأركيولوجيّة الجديدة في فلسطين لم يترك مِن الباحثين الجادّين مَن يُناقش في صحّة الخبر التوراتي، إلا بقيّة متعنّتة». هذه البقيّة المتعنّتة تقود العالم، فيُصمَت على ترامب، مثلاً، وتُصبح القدس «عاصمة أسّسها الشعب اليهودي»َ إن كان الحال كذلك، فلِمَ يَسخَر العالم مِن أفكار «داعش» وسواها مِن الجماعات الدينيّة؟ أقلّه «داعش» لم تقل إنّها بنت «عصر الأنوار» أو «الحداثة» وما بعدها.
العلم ممسوخاً، إلا إسرائيل!
المؤرخون الذين تصدّوا، ولو قليلاً، للمدرسة القديمة في الساحة التوراتيّة، أمثال توماس طومسون ونيلز لمخي مِن جامعة كوبنهاغن، وفيليب دافيس، مِن جامعة شيفيلد، نُبذوا وهوجموا ووصفوا بأنّهم «توراتيّون معتدلون». الأمر عينه، تقريباً، حصل مع أستاذ علم الآثار الإسرائيلي فينكلستاين، الذي كتب بوضوح: «لا يوجد لداوود ولا لسليمان أيّ ذكر في أيّ نص تاريخي واحد مصري، أو مِما بين النهرين. كما أنّ الدليل الآثاري على مشاريع البناء المشهورة لسيلمان أو أورشليم مفقود تماماً. لقد أخفقت كلّ التنقيبات الآثاريّة التي أُجريت، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حول جبل الهيكل في التعرّف حتّى إلى مجرّد أثر بسيط لهيكل سليمان الأسطوري». لا أحد يقول إن اليهود لم يوجدوا هناك طوال التاريخ. البحث ليس هنا. المسألة في التأسيس. لكن، وفي سياق آخر، ما الذي عُثِر عليه مِن حقبة القرن السابع قبل الميلاد في القدس فعلاً؟ مسألة لافتة جدّاً يُشير إليها فينكلستاين، إذ يكتب عن «نقوش عربيّة جنوبيّة» وجِدت في عدّة مواقع في يهوذا. يوضح ذلك: «اكتُشِفت ثلاث رقائق فخّاريّة مكتوب عليها بالخط العربي الجنوبي في مدينة داوود في أورشليم. وبما أنّها نُحِتت على أوان فخّاريّة يهوذوية نمطيّة – وليس على أنواع مستوردة – فإنّ هذا يشهد على إقامة مُحتملة لسكّان عرب في يهوذا». الكاتب أستاذ محاضر في جامعة تل أبيب، عمل حفراً وتنقيباً بيديه مع شركاء له، وخرج بهذه الخلاصات. اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، أخيراً، على خطورته كإجراء مرحلي، لكنه يبقى حلقة في سلسلة كانت حلقتها الأولى – التأسيس – أفظع بما لا يُقاس. ولادة إسرائيل هي «الكفر» الجليّ بالعلم الحديث، العلم الذي رفع الغرب لواءه وجعله «مشروعيّة» (أخلاقيّة) لحكم العالم واستعمار الشعوب لـ«تُصبح حضاريّة». لنتخيّل أن يخرج غداً أحد الزعماء الهندوس، ويدّعي أنّ «الفيدا» تقول، بحسب تأويله، إنّ للهندوس (وهم أمّة ملياريّة) الحقّ في إقامة دولة عاصمتها باريس، مثلاً! سيَرجمه «العالم العلمي» مباشرة. أمّا في حالة إسرائيل، فلا، إنّها «حقيقة» وإن لم توجد إلا في التوراة. تمتد المسألة أبعد مِن ذلك، إلى فكرة «الشعب اليهودي» نفسها، هذه «البلطجة التاريخيّة» التي دفعت مؤرّخاً، اسمه شلومو ساند، إلى أن يكتب عن «اختراع أرض إسرائيل». هذا غيض مِن فيض هذه العوالم التي، لسبب ما، لم يتسلّح بها أنصار القضيّة الفلسطينيّة كما يجب. ذات يوم، ذهبت «المؤسسة» الغربيّة، بالثقافة العامة، إلى تبنّي «موت الله». لاحقاً، سارت أيضاً مع «موت الإنسان». لكن، عندما كان يصل الدور إلى إسرائيل، منذ ما قبل إعلان قيامها، كانت «الثقافة التوراتيّة» تعود إلى الواجهة. ثقافة تحكم قرارات بلاد فولتير وكانط وروسو وهيوم، بكثير مِن النفاق، ثم باستثمار سياسي أسخف مِن السُّخف، تمسح بذلك شعوباً وتقيم على جماجمها الدول.